أصبح لافتا للنظر ذلك الذي نراه ونسمعه علي الساحة الحزبية الآن، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، من مظاهر الاتفاق والاختلاف في وجهات النظر، بين الأحزاب السياسية، وخاصة بعض أحزاب المعارضة، حول قضية المشاركة في الانتخابات القادمة لمجلس الشعب، وما يتردد من دعاوي للبعض للمقاطعة، أو عدم المشاركة في السباق الانتخابي. والمثير للانتباه في هذه القضية، أن الأحزاب تدرك قبل غيرها أن تلك دعوة سلبية، لا تتسق ولا تتوافق مع دور الأحزاب، ومهمتها، وواجبها، والمسئولية المنوطة بها في الحياة السياسية والحزبية، والتي تحتم عليها السعي بكل الطرق للتواجد الفاعل والمؤثر علي الساحة، وبذل أقصي الجهد لحث المواطنين علي المشاركة في العملية السياسية، وممارسة حقهم في التصويت، واختيار ممثليهم ونوابهم. وتدرك الأحزاب قبل غيرها، ان دعوتها السلبية تلك تتعارض تماما مع ما تقوله وتؤكده من إيمانها الكامل بالديمقراطية، وسعيها لتعميق ونشر ثقافة التعددية، والاختيار الحر، وحرية الرأي، في الوقت الذي تتصرف فيه عكس ذلك تماما، وتدعو للانسحاب، وعدم المشاركة، وعدم إبداء الرأي،..، وهذا شيء مؤسف حقا. وكنا نتصور، ومازلنا، أن تكون الانتخابات القادمة لمجلس الشعب، دافعا لكل الأحزاب، وخاصة أحزاب المعارضة، للتواجد المكثف في الشارع، وبين الجماهير، والعمل ليل نهار علي الدعوة لبرامجها، والسعي لكسب ثقة المواطنين، وضمان الاستحواذ علي أكبر قدر من رضا الناس، واستمالتهم لصفها وإقناعهم بالتصويت لصالح مرشحيها. وكنا، ومازلنا، نعتقد أن أحزاب المعارضة هي الأكثر حرصا علي المشاركة النشطة في انتخابات مجلس الشعب القادمة، كي تثبت لنفسها، ولجميع المهتمين والمتابعين للشأن العام، انها الأكثر حرصا علي نجاح التجربة الديمقراطية، والأكثر حرصا علي ان يكون لها تمثيل مشرف ومحسوس في مجلس الشعب بما يمثله من وزن ومعني، باعتباره المعقل البرلماني الاول للسلطة التشريعية المعبرة عن إرادة الشعب. وتأسيسا علي ذلك، كنا ومازلنا نري أن الأجدي والأكثر منطقية بالنسبة لهذه الأحزاب، هو أن تركز اهتمامها وجهدها علي اختيار الأعضاء من بين صفوفها، الأكثر قبولا في الشارع السياسي، والأكثر قدرة علي كسب ثقة الجماهير، والأكثر فرصا في الاستحواذ علي أصواتهم في الانتخابات القادمة،..، بدلا من تفرغ البعض منهم للدعوة للانسحاب وعدم المشاركة في السباق الانتخابي.
وفي هذا السياق، من المهم ان نؤكد أنه من الطبيعي أن تكون الأحزاب السياسية هي منصة التعبير عن أفكار وقناعات وتوجهات جموع المواطنين من أبناء الشعب، ومن الطبيعي أيضا ان تكون هذه الأحزاب هي الوسيلة الشرعية المتاحة والمعمول بها في جميع النظم الديمقراطية لتحقيق مصالح وطموحات جموع أعضائها في مستقبل أفضل، علي جميع المستويات السياسية والأقتصادية والاجتماعية،...، وأن علي هذه الأحزاب ان تنتهج طريقا واضحا لتحقيق هذه الأفكار، وتلك الطموحات، من خلال سياسات واضحة، تتسق مع الأفكار والقناعات المتوافق عليها لدي عموم أعضائها، بحيث تعبر عما يؤمنون به، وما يسعون اليه، علي أن تتم ترجمة ذلك من خلال برامج محددة لهذه الأحزاب لتنفيذ هذه السياسات وتحقيق تلك الغايات. وفي هذا الاطار، وفي كل الدول الديمقراطية تكون للأحزاب السياسية مهمتان رئيسيتان، الأولي هي: ان تكون وعاءً حاويا يضم بين طياته جموع الأفراد من ابناء الشعب، المؤمنين برؤي وأفكار واحدة أو متشابهة، أو غير متعارضة،...، وأن يتوافق الجميع فيما بينهم علي السعي من خلال هذه الأفكار، وتلك الرؤي لتحقيق مصالحهم والوصول لأهدافهم، شريطة أن تكون هذه المصالح غير متعارضة، بل متفقة ومحققة لمصالح جموع الأمة، وغالبية الشعب. وعلي قدر نجاح الأحزاب في أن تكون معبرة تعبيرا صحيحا عن جموع المواطنين، وعلي قدر نجاحها في توافق أهدافها مع مصالح عموم الناس، وغاياتهم، علي قدر ما تكون شعبيتها وصحة وجودها، وتفاعلها الإيجابي في الشارع السياسي، وكسبها لقاعدة عريضة من الجماهير تؤمن بهذه الأهداف، وتسعي لتحقيقها. أما الثانية، فهي ان من حق الأحزاب السياسية ان تسعي للحكم بجميع الطرق الشرعية، وأن يكون هذا السعي طبقا لما هو معمول به في جميع الدول الديمقراطية، عن طريق الحصول علي الأغلبية من مقاعد البرلمان،..، وبديهي أن ذلك لا يمكن أن يتم دون خوض الانتخابات، ودون الاستعداد لها استعداداً جادا وحقيقيا ونشطا وفاعلا. ومن البديهي أيضا ان تلك الأحزاب لا يمكن ان تحقق الاغلبية، إلا بالحصول علي رضاء الجماهير، وذلك لن يحدث إلا اذا اقنعت الجماهير بأنها تعبر تعبيرا صادقا عنها، وتسعي لتحقيق مصالحها، ومعالجة همومها، وطرح الحلول المناسبة لمعالجة مشاكلها، وتتبني الأفكار والرؤي والسياسات الكفيلة بالتعامل الإيجابي مع هذه الهموم، وتلك المشاكل، وترجمة ذلك كله في برامج عملية واضحة ومحددة، بما يدفع الغالبية لتأييدها، والإيمان بهذه الافكار، وتلك السياسات، والوثوق في هذه البرامج. وإذا ما فعلت الأحزاب ذلك، فمن الممكن أن تحصل بالفعل علي رضاء الجماهير، وتستحوذ علي ثقتهم وتكسب اصواتهم في الانتخابات، ويكون لها الأغلبية في البرلمان، بما يؤهلها لتشكيل الحكومة، وهو ما يحقق تداول السلطة بالطريق الديمقراطي.
والسؤال الآن، هل تفعل أحزاب المعارضة في مصر ذلك؟! وهل تسعي إلي هذا الطريق؟! الإجابة للأسف، لا،..، وهذا شيء لا يدعو للتفاؤل، بل ان الأكثر مدعاة للأسف، والإحباط، هو أنها تفعل عكس ذلك علي طول الخط، حيث أنها مشغولة بالبحث عن مبررات للتهرب من العملية الانتخابية، والانسحاب من خوض السباق الانتخابي، والدعوة للمقاطعة. وقد تباينت الآراء حول هذا المسلك المثير للإنتباه من جانب تلك الأحزاب الداعية للانسحاب والمقاطعة، حيث يري البعض ان تلك الضجة ما هي إلا وسيلة لجأت اليها تلك الأحزاب للفت الانتباه اليها في الشارع السياسي، وانها لن تلبث أن تنتهي الي لا شيء، خاصة وأن هناك بوادر عدم اتفاق بينها ظهرت علي سطح الأحداث، ومن المتوقع ان تتحول هذه البوادر الي واقع معلن، وأن تشهد الساحة اختلافا بينها حول دعوة الانسحاب، وعدم المشاركة. بينما يري البعض الآخر، ان هناك من بين تلك الأحزاب من يدرك ضعف وجوده الفعلي علي الساحة السياسية، وقلة تأثيره في الشارع السياسي، ويحس بغيبته عن عقول ونفوس الجماهير، وهو ما يجعله علي يقين من ضعف موقفه بين الناخبين من عموم الناس وهو ما يدفعه الي البحث عن وسيلة لحفظ ماء الوجه، وإخفاء ضعفه وقلة حيلته، فلا يجد غير التهرب من الانتخابات، والانسحاب منها وسيلة لتحقيق أهدافه. ويري هؤلاء ان ما تقول به هذه الأحزاب، وما تعلنه من أسباب للانسحاب والمقاطعة، إنما هو مجرد ذرائع واهية، وحجج باهتة لا تستند الي واقع، ولا تقوم علي اي اساس منطقي أو عقلي، كما انها في ذات الوقت تتناقض مع أبسط مباديء الديمقراطية التي يتشدقون بها ليل نهار. ويقول هؤلاء، انه من المستغرب أن تدعي هذه الأحزاب ان لها تواجدا فاعلا علي الساحة السياسية، وتأثيرا نشطا بين الجماهير وبين جموع المواطنين في الشارع السياسي، بينما هي في حقيقتها تعاني من حالة ضعف شديد، وغيبة أشد عن التأثير والفعل.
ورغم اقتناع كل من الجانبين بصحة رأيه، وصدق رؤيته، وسلامة تفسيره لسلوك الداعين للسلبية، والمطالبين بالمقاطعة، إلا اننا من المؤمنين، بأنه كان ولا يزال من الأجدي والأنفع بالنسبة لهذه الأحزاب، أن تعالج ضعفها، وتداوي أمراضها المزمنة، وتستفيق من غفوتها، وتسعي للتواجد الفاعل والحقيقي بين الجماهير، وتتبني القضايا الحقيقية لعموم المواطنين في مصر، وتبذل الجهد للتعبير عن قضاياهم، وكسب ثقتهم، بدلا من الدعوة للانسحاب. ونزيد علي ذلك بالقول، أنه كان ولا يزال من المهم والضروري، قبل ذلك وبعده، أن تقوم هذه الأحزاب بتطوير وتحديث نفسها، وطرح أفكارها ورؤاها وسياساتها، وبرامجها لتحقيق هذه الرؤي والأفكار وتلك السياسات أمام الجماهير، سعيا لكسب ثقتها، كخطوة ضرورية وعملية علي طريق التنافس الحر والشريف لنيل الأصوات، وتحقيق الأغلبية البرلمانية، بما يؤهلها لتشكيل الحكومة، وتداول السلطة، بدلا من الشكوي المستمرة من الحزب الوطني وحكومته. وانطلاقا من ذلك، كان ولا يزال نقدنا المستمر لحالة الضعف البادي علي الأحزاب المعارضة، وغياب تأثيرها علي الساحة، وغيبة تفاعلها مع الشارع السياسي، وأيضا عدم تواجدها بين الجماهير، وهو ما أدي الي انصراف الجماهير عنها. وقد قلنا في حالة الضعف هذه، ومازلنا نقول، ان تلك ظاهرة مؤسفة، وانها تستوجب الإشارة لها بقوة، والانتباه لها بجدية، نظرا لتأثيرها السلبي علي الحياة السياسية والحزبية بصفة عامة،..، وقلنا أيضا، أن الأكثر مدعاة للأسف من ذلك هو أن هذه الأحزاب لم تقم بتطوير وتحديث أسلوب عملها، ولا تعظيم تواجدها في الشارع ومع الناس، وبين الجماهير، حتي تصبح ذات تواجد مؤثر وفعال حقيقة وواقعا. والمؤسف ان تلك الأحزاب بدلا من أن تفعل ذلك، راحت تلقي بمسئولية ضعفها وغيابها عن الساحة علي الحزب الوطني الديمقراطي، وحكومته، بحجة أنهما لم يتركا للأحزاب الاخري مساحة للحركة أو النشاط، أو التواجد بين الجماهير. وهكذا رأينا تلك الأحزاب لا تغير من نفسها، ولا تحدث من أسلوبها، ولا تتفاعل مع الجماهير، ولكنها تفرغت لإلقاء اللوم علي الحزب الوطني، وعلقت ضعفها علي شماعته،..، وراحت تهاجمه وتلقي عليه المسئولية فيما هي فيه من وهن، وما هي عليه من ضعف وكسل.
ونحن لا نطالب هذه الأحزاب، بوقف هجومها علي الحزب الوطني، فهذا حق طبيعي لها، كما أنه من المتعارف عليه علي الساحة السياسية والحزبية في كل النظم الديمقراطية، أن تنتقد الأحزاب بعضها، وأن يتعرض حزب الأغلبية للهجوم والنقد من جانب أحزاب المعارضة. ولكن عادة، بل ودائما ما يكون تركيز أحزاب المعارضة في انتقاداتها، وحتي هجومها، منصب علي أفكار الحزب الحاكم، أو حزب الاغلبية، ورؤاه وسياساته،..، وعادة ما تكون هذه الانتقادات، وذلك الهجوم، هدفهما إلقاء الضوء علي قصور في المنهج أو السياسات، مع عرض للبدائل والخيارات الأخري المطروحة في برامج هذه الأحزاب، والتي نراها أجدي وأنفع، وأكثر تحقيقا للمنفعة العامة، وللصالح العام،..، وعادة أيضا في كل هذه النظم الديمقراطية، قيام أحزاب المعارضة ببذل أقصي الجهد لعرض وجهة نظرها، وافكارها التي تراها من وجهة نظرها اكثر إيجابية، واكثر فائدة للوطن والمواطن، من تلك الأفكار أو السياسات التي يطبقها الحزب الحاكم، أو حزب الأغلبية. ولكن ذلك للأسف لا يحدث علي ساحتنا السياسية والحزبية، وليس معمولا به حتي الآن من جانب أحزاب المعارضة،..، بل المعمول به للأسف هو التهجم علي الأشخاص في كل وقت، وكل مناسبة، وغيبة النقد الموضوعي للأفكار والسياسات،..، بل والأكثر مدعاة للأسف هو ما نراه ونشاهده الآن من الدعوة للانسحاب والمقاطعة.