بشرى لطلاب الثانوية العامة.. مكتبة مصر العامة ببنها تفتح أبوابها خلال انقطاع الكهرباء (تفاصيل)    تنسيق المدارس الفنية التجارية 2024.. بعد الشهادة الإعدادية    وزير الرى يدشن فى جنوب السودان مشروع أعمال التطهيرات بمجرى بحر الغزال    فاشل وكاذب .. الموقف المصري : عطش مطروح يكشف تدليس السيسي عن تحلية المياه    صندوق النقد الدولي يقر بتمويل 12.8 مليون دولار للرأس الأخضر    عضو المجلس التصديري للصناعات الغذائية : مستوردون من أمريكا أعلنوا نيتهم استيراد التمور المصرية    الرئيس السيسي يوقع قوانين بربط الحساب الختامي لموازنة عدد من الهيئات والصناديق    إعلام إسرائيلى: عائلات المحتجزين يتظاهرون وسط تل أبيب اعتراضا على نتنياهو    رونالدو أصبح أول لاعب أوروبي يشارك فى 50 مباراة فى البطولات الكبرى    عضو في حزب «بايدن»: الرئيس الأمريكي سيركز على قضايا «ترامب» الجنائية وخطابه المناهض للديمقراطية (حوار)    ماعت تناقش مدى التزام الدول العربية بخطة عمل الأمم المتحدة بشأن الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة    لماذا يقلق الغرب من شراكة روسيا مع كوريا الشمالية؟ أستاذ أمن قومي يوضح    هلوزيك ضد أردا جولر.. تشكيلتي التشيك وتركيا في يورو 2024    ثلاثي مصري في نهائي فردي الناشئات ببطولة العالم للخماسي الحديث بالإسكندرية    مصرع شاب غرقا في المنوفية والحر المتهم الأول    بعد إصابة أم وطفليها.. التحقيق في حريق برج سكني ببني سويف    نتيجة الطلاب المصريين بالخارج لجميع صفوف النقل .. ظهرت الآن    ولاد رزق 3 يواصل تحطيم الأرقام ويحقق مبلغا خرافيا في شباك التذاكر    سعد الصغير يغني لعبد الحليم حافظ مع بودة اللليثي    «يا أصحابي طلعتوا عيرة ملكوش غير سيرتي سيرة».. طرح أغنية «يا دمعي» ل رامي جمال    «قطاع الآثار»: فيديو قصر البارون عار تمامًا من الصحة    أزمة جديدة تواجه شيرين عبد الوهاب بعد تسريب 'كل الحاجات'    قافلة طبية شاملة مجانية بقرية الحراجية في قنا    كيف يؤثر ارتفاع درجات الحرارة على الرحلات الجوية؟.. عطَّل آلاف الطائرات    نجاح كبير للشركة المتحدة فى الدراما.. 125 عملا بمشاركة 12 ألف فنان و23 ألف عامل "فيديو"    خالد الجندي: الترفيه مش حرام ولكن يُحرم حال مخالفة الضوابط الشرعية    مساعد وزير البيئة: حجم المخلفات المنزلية يبلغ نحو 25 مليون طن سنويا    بتكلفة 250 مليون جنيه.. رئيس جامعة القاهرة يفتتح تطوير مستشفي أبو الريش المنيرة ضمن مشروع تطوير قصر العيني    برشلونة يضع شرطًا وحيدًا لرحيل أنسو فاتي    خبير شئون دولية: فرنسا الابن البكر للكنيسة الكاثوليكية    ضيافة مجانية.. كنيسة ومطعم وقاعة أفراح تعلن فتح أبوابها لطلاب الثانوية بالمنوفية    «مياه كفر الشيخ» تعلن فتح باب التدريب الصيفي لطلاب الجامعات والمعاهد    أمين الفتوى: الغش فى الامتحانات معصية لله.. فيديو    المشدد 15 سنة لصاحب مستودع لاتهامه بقتل شخص بسبب مشادة كلامية فى سوهاج    الإفتاء: المصيف مثل الصلاة لهما خصوصية    كيف يؤدي المريض الصلاة؟    17 ميدالية حصيلة منتخب مصر في كأس العالم لرفع الأثقال البارالمبي    اخوات للأبد.. المصري والإسماعيلي يرفعان شعار الروح الرياضية قبل ديربي القناة    القوات المسلحة تنظم مؤتمرا طبيا بعنوان «اليوم العلمي للجينوم»    «التمريض»: «محمود» تترأس اجتماع لجنة التدريب بالبورد العربي (تفاصيل)    نجم ميلان الإيطالي يرفض عرض الهلال السعودي ويتمسك بالبقاء في أوروبا    وزيرة البيئة تتابع حادث شحوط مركب سفاري بمرسى علم    عرض رسمي.. نادِ سعودي يفتح مفاوضات ضم أليو ديانج    الصحة: استجابة 700 مدمن للعلاج باستخدام برنامج العلاج ببدائل الأفيونات    شديد الحرارة رطب نهارًا.. الأرصاد تكشف عن حالة الطقس غدا الخميس    لجنة القيد بالبورصة توافق على الشطب الإجبارى لشركة جينيال تورز    الإعدام لثلاثة متهمين بقتل شخص لسرقته بالإكراه في سوهاج    تعيين 4 أعضاء جدد في غرفة السلع والعاديات السياحية    ختام دورة "فلتتأصل فينا" للآباء الكهنة بمعهد الرعاية    فحص 764 مواطنا فى قافلة طبية مجانية بقرى بنجر السكر غرب الإسكندرية    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    الأكاديمية الطبية تفتح باب التسجيل في برامج الماجستير والدكتوراة بالمعاهد العسكرية    الإفتاء توضح حكم زكاة المال الخاصة بشركة تجارية وكيفية إخراجها    احتفالات 30 يونيو.. باقة من الأغنيات الوطنية تستقبل جمهور «الإنتاج الثقافي»    وزير التعليم يتفقد امتحانات الثانوية بمدرسة المتفوقين للعلوم والتكنولوجيا    الجريدة الكويتية: هجمات من شتى الاتجاهات على إسرائيل إذا شنت حربا شاملة على حزب الله    المحامين تضع شروط جديدة لقبول القيد بها.. تعرف عليها    نجم الزمالك السابق: الدوري «بايظ» والتحكيم فاشل.. وقرار الانسحاب أمام الأهلي «غلط»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل كانت هناك نهضة عربية فعلا؟
نشر في صوت البلد يوم 02 - 08 - 2016

سؤالٌ يُشوِّش على ما صار صُلبا، له صبغة قناعة تنزل منزلة اليقين، لكن مهما كان الموقف منه فمن الوارد أن يكُون الفكر العربيّ قد سلك إليه طريقا مسدودا أو غير سالك مُعتمدا في ذلك على مُنطلق قادت إمكاناته إلى ما نحن عليه اليوم من سوء الحال، واضطراب المآل.
وليس من المستبعد أن يكُون قد عُولج سؤالُ النهضة بنوع من البراءة، حتّى لا نقول بسوء تدبير الواقع في علاقته بالفكر. ومُؤدّى ما نتوخّى إثارته – في هذا النطاق- الشكّ في أن يكُون ما حدث مُتطابقا مع ما فُكِّرَ فيه بوصفه سؤال نهضة. ويترتَّب على هذا الشك سؤال أهمّ ذو طبيعة تركيبيّة: إذا لم تكن قد حدثت «نهضة» عربيّة في عصرنا الحديث فما الذي كان؟ وكيف يُسمّى؟ وكيف يرتَّب قياسا إلى صيرورات مُماثلة في التاريخ الحديث؟ مُقتنع أيُّما اقتناع بأنّ مثل هذا الأسئلة ستجعل عديدا من الدراسات التي تناولت «النهضةَ» العربيّة بالدرس والتحليل وفكرَها في مأزق نظريٍّ، كما لا بدَّ أن تنشأ من جرّاء هذا تبعات أخفّها استنكارا: التجاهل، لكن لا بأس.
وأوّل ما نروم مُناقشته في هذا الجانب مفهوم الاصطلاح الغربيّ renaissance، فهو لا يعني ما يدلّ عليه لفظ «النهضة» في الذهن العربيّ (لا العقل، وإنّما تعقيله)، وما يُفضي إليه الفعلُ منه (نهض) من معانٍ في اللسان العربيّ. وسنُؤجِّل مُناقشة صحّة هذا الأمر بدوره في ما يلي من هذا المقال المقتضب. وما يدل عليه المفهوم الغربيّ يرتبط بفعل إعادة الولادة الذي يستتبع- بالضرورة- تحوُّلا جذريّا يُفضي إلى بداية جديدة لصيرورة حياة أخرى تقطع مع صيرورة حياة سابقة؛ الشيء الذي يفترض فهم إعادة الولادة أيضا في سياق الانبعاث بعد الموت؛ أي بعث الحياة في ما صار في عداد الموتى، ومن هنا تكتسب السابقة اللسانيّة (re) شرعيتها لتدلّ على ولادة ثانية بعد ولادة أولى. بهذا المعنى المركَّب ينبغي فهم المفهوم الغربيّ، لكن لن يستقيم هذا الفهم إلّا بوضع العلاقة بالإرادة في قلب كلّ هذا، بما يُفيد أنّ الإرادة في الولادة من جديد نابعة من الذات المعنية بها، ومن الأكيد أنّ هذا الشرط يقتضي استبعاد كلّ تفعيل خارجّي لهذه الإرادة؛ أي فرضها من قِبَل قوّة غيريّة. كما ينبغي فهم هذه الولادة- مثلما حدثت في الغرب- في اتّصالها بماضٍ ما؛ إذ لا تعني- كما يُخيَّل إلى البعض ممّن يُطلق الأحكام جزافا- القطيعةَ مع الماضي؛ فالعكس هو الوارد. لكنّ هذا الاتّصال بالماضي هو من طبيعة مُركّبة؛ حيث لم يكن الأمر يتعلّق بماضٍ أوروبيّ واحد، وإنّما باثنين؛ أحدهما كان دليلا إلى الهدف من إعادة الولادة، وثانيهما إلى الوسيلةَ إليه: إعادة إحياء القوّة الرومانيّة (النظام الإداريّ والامتداد الجغرافيّ) بوساطة الفكر اليونانيّ (الجدال السياسيّ). إلى أي حدّ- إذن- كان قياس مُناقشة ما سُمِّي بالنهضة على ما حدث في الغرب مقبولا، سواء في حدود تطابق الواقعيْن (العربيّ/ الغربيّ)، أم في السياق الاستراتيجيّ لكلّ منهما؛ إذ لا ينبغي التغاضي عن تلازم الهدف والوسيلة في هذا النطاق؟
يُعَدّ اصطلاح النهضة – إذن، وكما اُسْتُهلك في توصيف مرحلة من تاريخنا الحديث – غير مُناسب البتّة وفق علّتيْن؛ تتّصل الأولى منهما بانتفاء المعنى الأوروبيّ الذي أتينا على توضيحه من قَبْلُ، إذ كان من الأليق ألّا يكُون الحديث عن النهضة، بل عن الانبعاث، لأنّ هذا الأخير يحمل في طياته التركيب بين إعادة الولادة والحياة بعد الموت. وتتمثّل العلّة الثانية في كون اصطلاح النهضة في اللسانيّ العربيّ يرتبط بحالتين من الاستعمال: تتّصل الحالة الأولى بمن هو في طور الإفاقة بعد النوم، وتتعلّق الحالة الثانية بمُحاولة النهوض من العثرة بعد السقوط أرضا. وهما حالتان مقبولتان من أجل اعتمادهما في توصيف الرغبة في مُجاوزة واقع حضاريّ مُتردّ نحو الأفضل، على أساس ألّا يكُون هناك نمط واحد لهذا الانبعاث؛ ومن ثمّة يُسوَّغ استعمال اصطلاح النهضة بالمعنى الدالّ على الخروج من وضع الجمود (النوم)، بما يعنيه هذا من تركيب بين هذه الرغبة وَصِفَتَي القوّة والارتفاع (المكان الناهض: المُرتفع) اللتين هما من دلالات فعل (نهض). لكن حتّى هذا المخرج لا يحلّ المعضلة، إذ يضعنا أمام مأزق آخر مُتأتٍّ من علاقة الإرادة الإفاقة؛ فلم تكن ذاتية نابعة من الذات العربيّة اختيارا وقرارا، بل كانت حاجة غيريّة ذاتَ اتّصاف قهريّ، وانتقائيّة وتلفيقيّة. لم ينهض الجسد المُنهك من تلقاء نفسه، ولا حتّى بطلب المُساعدة، وإنما بفعل إرادة الغير.
وقد نشأ هذا الوضع التباسٌ أدّى بالفكر الذي اضطلع بفهم مرحلة «النهضة» إلى أن يُعاني من فهم الإخفاق الذي وسم الإفاقة القيصريّة؛ ومردّ هذا إلى غياب الشكّ في مفهوم النهضة، وغياب فهم الدينامية التي كانت تعمل بمُوجبها الإرادة الغيريّة، وتوصيفها على نحو دقيق، وبما يليق من الاصطلاح الذي بمقدوره توصيفها. ما هذا الذي كان واردا، إذن، ألّم تكن هناك نهضةٌ بالمفهوم العربيّ، أو انبعاث بالمفهوم الغربي؟ ينبغي استنباط ما كان واردا من الإرادة الغيريّة التي وقع التماهي معها، والتي أُشير إليها بعديد من الاصطلاحات التي تحتاج إلى إعادة النظر فيها، وفي مُقدِّمتها النموذج. ولعلّنا واجدون الاصطلاح الأنسب الذي يتوافق مع الوضع في هذه المرحلة من تاريخ العرب الحرج في اللفظ الفرنسيّ le rétablissement الذي يُفيد إعادة التقويم والترميم والتأهيل. لكنّ الدلالة التي نروم استخلاصها- في هذا النطاق- تتعلّق بالعمل على جعل كيان ما أو مُؤسَّسة ما في وضع اشتغال جيّد بعد توقّف، أو عطب، أو نقص في المردودية؛ فهذا ما حدث بالضبط، وكانت البداية مع حملة نابليون بونابرت إلى مصر التي مثَّلت تمظهر الإرادة الغيريّة التي كانت تُحقّق هدفها الخاصّ الماثل في صيرورة انبعاثها، وكنّا نحن موضوعا لها، كما كانت الرغبة في إنهاض المنطقة العربيّة موضوعا لها. لقد كانت الإرادة- إذن- غيريّة، ومتأتّيّة من هدف ماثل في إعادة تأهيل مُجتمعات غيريّة، لا من أجل سواد عينيها، أو لكي تكون مُساوية للدول المُتقدِّمة الصناعية حينذاك في القدر، ولكن لكي تقبل الانضواء في منظومتها الاقتصاديّة (القوّة والنظام الرومانيّيْن)، لا في منظومتها السياسيّة. لكن ما الداعي لأن تهتمّ الدول الغربيّة المُسيطِرة بتأهيل المُجتمعات المتخلِّفة من طريق إدماجها في منظومتها الاقتصاديّة؟ يعود السبب في هذا إلى علاقة الاقتصاد، خاصّة السوق، بتعميم معرفة الفعل (المهارات): le savoir faire ؛ فلا يُمْكِن تصدير بضائع مُصنّعة – خاصّة منها تلك المُتعلِّقة بالتقنية- من دون التمكُّن من معرفة استعمالها. ويتطلّب هذا الهدف الأخير تعلّمات مُعيَّنة مُرتبطة باستعمال الكتابة والحساب. هذا فضلا عن كون التأهيل الإداريّ والتمدنيّ يقتضي استيراد ما به يتأسّس. ولم يكن ليحدث هذا من دون الاستعمار؛ فإلى جانب الموادّ الخامّ، كانت هناك ضرورة تأهيل السوق في الدول المُستعمَرة لكي تُدمج في بنيتها الحاجةَ إلى مُنتجات المصانع الغربيّة. ويترتَّب على هذا ضرورة إعادة النظر في لفظ «النهضة» الذي ظلّ يُستخدم للدلالة على وضع تاريخيّ مُلتبس، فما كان واردا هو فعل إعادة التأهيل بوصفه إرادة غيريّة، والذي يُمْكِن تسميته إنهاضا، فحتّى النهوض لم يكن واردا. ومن ثمّة كانت الإشكالات الفكريّة التي طُرحت- في إطار الإصلاح أو التقدّم- نابعة من مُنطلق لم يُفكَّر فيه إلّا في ضوء جدول أعمال هُيِّئَ وفق قياس على الغير، وعلى أسئلته من دون التنبّه إلى فهم تاريخية انبعاثه، ومُحاورته في ضوء الإرادة الذاتيّة، والأسئلة المُرتبطة بها، وما زال الوضع كذلك. فهل هناك اليوم شيءٌ ينبغي استئنافه في إطار التراكم الذي تحقّق داخل صيرورة وصلت إلى المأزق؟
ما نحتاجه اليوم ينبغي استخلاصه وفق ثلاثة مبادئ أسس: تعدّد الانبعاث، ورفض التبعية، وتغيير طرائق التفكير. نحتاج- إذن- للقطعُ مع تصوّر للانبعاث ظلّ يتخذ من الغرب نموذجا له؛ إذ لا شيء يدعو إلى ضرورة مُحاكاة انبعاث الغير غربيّا كان أم غير غربيّ، فهناك أشكالٌ مُتعدِّدةٌ من الانبعاث مُختلفةٌ، فإذا كان الهدف يكاد يكُون واحدا (التقدّم) فمن الوارد أن تختلف الوسائل، أو على الأقلّ طرائق استعمالها. وهناك أمثلة في هذا الصدد: التجربة اليابانيّة، والتجربة الهنديّة، وتجربة دوّل جنوب آسيا. ويترتّب على هذا أنّ التجربة العربيّة ينبغي أن تُقام على أساس إعادة التأسيس في ضوء تاريخ المنطقة الفكريّ العقلانيّ، والانفتاح على العالم في مسألة التدبير الجيّد للمُجتمع. وقلنا إعادة التأسيس لأنّنا ورثنا اليوم تركة مُركَّبة مُخالِفة للوضع الأوروبيّ بعد القرون الوسطى: الموت التاريخيّ، وإنهاض مُعوِّق مُفْضٍ إلى التواكل حتّى في الجانب الأمنيّ.. ويقتضي المبدأ الثاني الخروج من التبعية للغير في كلّ شيء، والشروع في إثبات الذات من طريق التركيب بين تقديس العمل، والاجتهاد، ولن يتحقَّق هذا إلا بامتلاك القدرة على توليد الأسئلة الخاصّة بما يسمح بمُحاورة المُنتَج الإنسانيّ في تنوّعه، والسعي إلى المُساهمة فيه، وبما يُخرج الذات من مجال التتلمذ الاستهلاكيّ (خيري بك) الذي يُحوِّلها إلى عالة على الغير. وأهمُّ هذه المبادئ الثلاثة تغيير طرائق التفكير؛ فقد كان الجهد كلُّه مُنصرِفا إلى مُحاولة البحث في الأفكار واستيرادها من الماضي أو من الغير، والاختصام حول الأصلح منها، بينما لم يُتنبّه إلى أنّ المُشكلة لم تكن كامنة في طبيعة الأفكار ذاتها، أو في صلاحها أو فسادها، بقدر ما كانت كامنة في طرائق التفكير التي ظلّت ثابتة، وتقليدية موروثة، ومُشكِّلة الوجدان والعقل العربيَّيْن، ولم تُتغيَّر بما يتلاءم مع العصر وأسئلته. لا تنفصل هذه المبادئ الثلاثة عن سؤال من يمتلك الإرادة في تحيينها؛ وهذا موضوع آخر يرتبط بحركة التنوير العربيّ، وبالشروط السوسيو- ثقافيّة والاقتصاديّة التي تتحكَّم فيها.
.......
٭ أديب وأكاديمي مغربي
سؤالٌ يُشوِّش على ما صار صُلبا، له صبغة قناعة تنزل منزلة اليقين، لكن مهما كان الموقف منه فمن الوارد أن يكُون الفكر العربيّ قد سلك إليه طريقا مسدودا أو غير سالك مُعتمدا في ذلك على مُنطلق قادت إمكاناته إلى ما نحن عليه اليوم من سوء الحال، واضطراب المآل.
وليس من المستبعد أن يكُون قد عُولج سؤالُ النهضة بنوع من البراءة، حتّى لا نقول بسوء تدبير الواقع في علاقته بالفكر. ومُؤدّى ما نتوخّى إثارته – في هذا النطاق- الشكّ في أن يكُون ما حدث مُتطابقا مع ما فُكِّرَ فيه بوصفه سؤال نهضة. ويترتَّب على هذا الشك سؤال أهمّ ذو طبيعة تركيبيّة: إذا لم تكن قد حدثت «نهضة» عربيّة في عصرنا الحديث فما الذي كان؟ وكيف يُسمّى؟ وكيف يرتَّب قياسا إلى صيرورات مُماثلة في التاريخ الحديث؟ مُقتنع أيُّما اقتناع بأنّ مثل هذا الأسئلة ستجعل عديدا من الدراسات التي تناولت «النهضةَ» العربيّة بالدرس والتحليل وفكرَها في مأزق نظريٍّ، كما لا بدَّ أن تنشأ من جرّاء هذا تبعات أخفّها استنكارا: التجاهل، لكن لا بأس.
وأوّل ما نروم مُناقشته في هذا الجانب مفهوم الاصطلاح الغربيّ renaissance، فهو لا يعني ما يدلّ عليه لفظ «النهضة» في الذهن العربيّ (لا العقل، وإنّما تعقيله)، وما يُفضي إليه الفعلُ منه (نهض) من معانٍ في اللسان العربيّ. وسنُؤجِّل مُناقشة صحّة هذا الأمر بدوره في ما يلي من هذا المقال المقتضب. وما يدل عليه المفهوم الغربيّ يرتبط بفعل إعادة الولادة الذي يستتبع- بالضرورة- تحوُّلا جذريّا يُفضي إلى بداية جديدة لصيرورة حياة أخرى تقطع مع صيرورة حياة سابقة؛ الشيء الذي يفترض فهم إعادة الولادة أيضا في سياق الانبعاث بعد الموت؛ أي بعث الحياة في ما صار في عداد الموتى، ومن هنا تكتسب السابقة اللسانيّة (re) شرعيتها لتدلّ على ولادة ثانية بعد ولادة أولى. بهذا المعنى المركَّب ينبغي فهم المفهوم الغربيّ، لكن لن يستقيم هذا الفهم إلّا بوضع العلاقة بالإرادة في قلب كلّ هذا، بما يُفيد أنّ الإرادة في الولادة من جديد نابعة من الذات المعنية بها، ومن الأكيد أنّ هذا الشرط يقتضي استبعاد كلّ تفعيل خارجّي لهذه الإرادة؛ أي فرضها من قِبَل قوّة غيريّة. كما ينبغي فهم هذه الولادة- مثلما حدثت في الغرب- في اتّصالها بماضٍ ما؛ إذ لا تعني- كما يُخيَّل إلى البعض ممّن يُطلق الأحكام جزافا- القطيعةَ مع الماضي؛ فالعكس هو الوارد. لكنّ هذا الاتّصال بالماضي هو من طبيعة مُركّبة؛ حيث لم يكن الأمر يتعلّق بماضٍ أوروبيّ واحد، وإنّما باثنين؛ أحدهما كان دليلا إلى الهدف من إعادة الولادة، وثانيهما إلى الوسيلةَ إليه: إعادة إحياء القوّة الرومانيّة (النظام الإداريّ والامتداد الجغرافيّ) بوساطة الفكر اليونانيّ (الجدال السياسيّ). إلى أي حدّ- إذن- كان قياس مُناقشة ما سُمِّي بالنهضة على ما حدث في الغرب مقبولا، سواء في حدود تطابق الواقعيْن (العربيّ/ الغربيّ)، أم في السياق الاستراتيجيّ لكلّ منهما؛ إذ لا ينبغي التغاضي عن تلازم الهدف والوسيلة في هذا النطاق؟
يُعَدّ اصطلاح النهضة – إذن، وكما اُسْتُهلك في توصيف مرحلة من تاريخنا الحديث – غير مُناسب البتّة وفق علّتيْن؛ تتّصل الأولى منهما بانتفاء المعنى الأوروبيّ الذي أتينا على توضيحه من قَبْلُ، إذ كان من الأليق ألّا يكُون الحديث عن النهضة، بل عن الانبعاث، لأنّ هذا الأخير يحمل في طياته التركيب بين إعادة الولادة والحياة بعد الموت. وتتمثّل العلّة الثانية في كون اصطلاح النهضة في اللسانيّ العربيّ يرتبط بحالتين من الاستعمال: تتّصل الحالة الأولى بمن هو في طور الإفاقة بعد النوم، وتتعلّق الحالة الثانية بمُحاولة النهوض من العثرة بعد السقوط أرضا. وهما حالتان مقبولتان من أجل اعتمادهما في توصيف الرغبة في مُجاوزة واقع حضاريّ مُتردّ نحو الأفضل، على أساس ألّا يكُون هناك نمط واحد لهذا الانبعاث؛ ومن ثمّة يُسوَّغ استعمال اصطلاح النهضة بالمعنى الدالّ على الخروج من وضع الجمود (النوم)، بما يعنيه هذا من تركيب بين هذه الرغبة وَصِفَتَي القوّة والارتفاع (المكان الناهض: المُرتفع) اللتين هما من دلالات فعل (نهض). لكن حتّى هذا المخرج لا يحلّ المعضلة، إذ يضعنا أمام مأزق آخر مُتأتٍّ من علاقة الإرادة الإفاقة؛ فلم تكن ذاتية نابعة من الذات العربيّة اختيارا وقرارا، بل كانت حاجة غيريّة ذاتَ اتّصاف قهريّ، وانتقائيّة وتلفيقيّة. لم ينهض الجسد المُنهك من تلقاء نفسه، ولا حتّى بطلب المُساعدة، وإنما بفعل إرادة الغير.
وقد نشأ هذا الوضع التباسٌ أدّى بالفكر الذي اضطلع بفهم مرحلة «النهضة» إلى أن يُعاني من فهم الإخفاق الذي وسم الإفاقة القيصريّة؛ ومردّ هذا إلى غياب الشكّ في مفهوم النهضة، وغياب فهم الدينامية التي كانت تعمل بمُوجبها الإرادة الغيريّة، وتوصيفها على نحو دقيق، وبما يليق من الاصطلاح الذي بمقدوره توصيفها. ما هذا الذي كان واردا، إذن، ألّم تكن هناك نهضةٌ بالمفهوم العربيّ، أو انبعاث بالمفهوم الغربي؟ ينبغي استنباط ما كان واردا من الإرادة الغيريّة التي وقع التماهي معها، والتي أُشير إليها بعديد من الاصطلاحات التي تحتاج إلى إعادة النظر فيها، وفي مُقدِّمتها النموذج. ولعلّنا واجدون الاصطلاح الأنسب الذي يتوافق مع الوضع في هذه المرحلة من تاريخ العرب الحرج في اللفظ الفرنسيّ le rétablissement الذي يُفيد إعادة التقويم والترميم والتأهيل. لكنّ الدلالة التي نروم استخلاصها- في هذا النطاق- تتعلّق بالعمل على جعل كيان ما أو مُؤسَّسة ما في وضع اشتغال جيّد بعد توقّف، أو عطب، أو نقص في المردودية؛ فهذا ما حدث بالضبط، وكانت البداية مع حملة نابليون بونابرت إلى مصر التي مثَّلت تمظهر الإرادة الغيريّة التي كانت تُحقّق هدفها الخاصّ الماثل في صيرورة انبعاثها، وكنّا نحن موضوعا لها، كما كانت الرغبة في إنهاض المنطقة العربيّة موضوعا لها. لقد كانت الإرادة- إذن- غيريّة، ومتأتّيّة من هدف ماثل في إعادة تأهيل مُجتمعات غيريّة، لا من أجل سواد عينيها، أو لكي تكون مُساوية للدول المُتقدِّمة الصناعية حينذاك في القدر، ولكن لكي تقبل الانضواء في منظومتها الاقتصاديّة (القوّة والنظام الرومانيّيْن)، لا في منظومتها السياسيّة. لكن ما الداعي لأن تهتمّ الدول الغربيّة المُسيطِرة بتأهيل المُجتمعات المتخلِّفة من طريق إدماجها في منظومتها الاقتصاديّة؟ يعود السبب في هذا إلى علاقة الاقتصاد، خاصّة السوق، بتعميم معرفة الفعل (المهارات): le savoir faire ؛ فلا يُمْكِن تصدير بضائع مُصنّعة – خاصّة منها تلك المُتعلِّقة بالتقنية- من دون التمكُّن من معرفة استعمالها. ويتطلّب هذا الهدف الأخير تعلّمات مُعيَّنة مُرتبطة باستعمال الكتابة والحساب. هذا فضلا عن كون التأهيل الإداريّ والتمدنيّ يقتضي استيراد ما به يتأسّس. ولم يكن ليحدث هذا من دون الاستعمار؛ فإلى جانب الموادّ الخامّ، كانت هناك ضرورة تأهيل السوق في الدول المُستعمَرة لكي تُدمج في بنيتها الحاجةَ إلى مُنتجات المصانع الغربيّة. ويترتَّب على هذا ضرورة إعادة النظر في لفظ «النهضة» الذي ظلّ يُستخدم للدلالة على وضع تاريخيّ مُلتبس، فما كان واردا هو فعل إعادة التأهيل بوصفه إرادة غيريّة، والذي يُمْكِن تسميته إنهاضا، فحتّى النهوض لم يكن واردا. ومن ثمّة كانت الإشكالات الفكريّة التي طُرحت- في إطار الإصلاح أو التقدّم- نابعة من مُنطلق لم يُفكَّر فيه إلّا في ضوء جدول أعمال هُيِّئَ وفق قياس على الغير، وعلى أسئلته من دون التنبّه إلى فهم تاريخية انبعاثه، ومُحاورته في ضوء الإرادة الذاتيّة، والأسئلة المُرتبطة بها، وما زال الوضع كذلك. فهل هناك اليوم شيءٌ ينبغي استئنافه في إطار التراكم الذي تحقّق داخل صيرورة وصلت إلى المأزق؟
ما نحتاجه اليوم ينبغي استخلاصه وفق ثلاثة مبادئ أسس: تعدّد الانبعاث، ورفض التبعية، وتغيير طرائق التفكير. نحتاج- إذن- للقطعُ مع تصوّر للانبعاث ظلّ يتخذ من الغرب نموذجا له؛ إذ لا شيء يدعو إلى ضرورة مُحاكاة انبعاث الغير غربيّا كان أم غير غربيّ، فهناك أشكالٌ مُتعدِّدةٌ من الانبعاث مُختلفةٌ، فإذا كان الهدف يكاد يكُون واحدا (التقدّم) فمن الوارد أن تختلف الوسائل، أو على الأقلّ طرائق استعمالها. وهناك أمثلة في هذا الصدد: التجربة اليابانيّة، والتجربة الهنديّة، وتجربة دوّل جنوب آسيا. ويترتّب على هذا أنّ التجربة العربيّة ينبغي أن تُقام على أساس إعادة التأسيس في ضوء تاريخ المنطقة الفكريّ العقلانيّ، والانفتاح على العالم في مسألة التدبير الجيّد للمُجتمع. وقلنا إعادة التأسيس لأنّنا ورثنا اليوم تركة مُركَّبة مُخالِفة للوضع الأوروبيّ بعد القرون الوسطى: الموت التاريخيّ، وإنهاض مُعوِّق مُفْضٍ إلى التواكل حتّى في الجانب الأمنيّ.. ويقتضي المبدأ الثاني الخروج من التبعية للغير في كلّ شيء، والشروع في إثبات الذات من طريق التركيب بين تقديس العمل، والاجتهاد، ولن يتحقَّق هذا إلا بامتلاك القدرة على توليد الأسئلة الخاصّة بما يسمح بمُحاورة المُنتَج الإنسانيّ في تنوّعه، والسعي إلى المُساهمة فيه، وبما يُخرج الذات من مجال التتلمذ الاستهلاكيّ (خيري بك) الذي يُحوِّلها إلى عالة على الغير. وأهمُّ هذه المبادئ الثلاثة تغيير طرائق التفكير؛ فقد كان الجهد كلُّه مُنصرِفا إلى مُحاولة البحث في الأفكار واستيرادها من الماضي أو من الغير، والاختصام حول الأصلح منها، بينما لم يُتنبّه إلى أنّ المُشكلة لم تكن كامنة في طبيعة الأفكار ذاتها، أو في صلاحها أو فسادها، بقدر ما كانت كامنة في طرائق التفكير التي ظلّت ثابتة، وتقليدية موروثة، ومُشكِّلة الوجدان والعقل العربيَّيْن، ولم تُتغيَّر بما يتلاءم مع العصر وأسئلته. لا تنفصل هذه المبادئ الثلاثة عن سؤال من يمتلك الإرادة في تحيينها؛ وهذا موضوع آخر يرتبط بحركة التنوير العربيّ، وبالشروط السوسيو- ثقافيّة والاقتصاديّة التي تتحكَّم فيها.
.......
٭ أديب وأكاديمي مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.