البورصات الأوروبية تغلق على انخفاض.. وسهم H&M يهبط 13%    حماس: ندعو المجتمع الدولي لوقف الجرائم الإسرائيلية ومحاسبة قادة الاحتلال    لم يسبق له العمل في منصب سياسي قبل رئاسة أمريكا.. ترامب يخوض الانتخابات من جديد    عبدالمنعم سعيد: مصر لديها خبرة كبيرة في التفاوض السياسي    طلب عاجل من الزمالك ل«رابطة الأندية» بشأن مباراة سيراميكا    جوميز يطلع على التقارير الفنية والبدنية للزمالك    تشكيل زد - زيكو يقود الهجوم ضد طلائع الجيش    غادة والي: 64 مليون شخص حول العالم يعانون من اضطرابات تعاطي المخدرات    يسرا عن مسرحية ملك والشاطر: دي ممكن تبقى آخر مسرحية في حياتي    لطيفة تطرح ثالث كليباتها «بتقول جرحتك».. «مفيش ممنوع» يتصدر التريند    دعاء أول شهر محرم.. احرص على 4 كلمات مع بداية السنة الهجرية الجديدة 1446    تخريج دورات جديدة من دارسي الأكاديمية العسكرية    «الرعاية الصحية» تعلن حصاد إنجازاتها بعد مرور 5 أعوام من انطلاق منظومة التأمين الصحي الشامل    رئيس تغير المناخ: قطع الأشجار في مصر لا علاقة له بالموجات الحارة    أيمن الجميل: تطوير الصناعات الزراعية المتكاملة يشهد نموا متصاعدا خلال السنوات الأخيرة ويحقق طفرة فى الصادرات المصرية    رئيس هيئة النيابة الإدارية يفتتح المقر الجديد للنيابة بشبين الكوم    محافظ شمال سيناء :ثورة 30 يونيو انتفاضة شعب بكل فئاته ضد الفئة الضالة التي اختطفت الوطن    محافظ أسوان يلتقي رئيس هيئة تنمية الصعيد.. تفاصيل    عمرو يوسف ل فاطمة مصطفى عن مرض كندة علوش: الموضوع بقاله سنتين.. فيديو    الصحة العالمية: أكثر من 10 آلاف مريض فى غزة بحاجة لرعاية طبية خارج القطاع    لهذا السبب.. محمد رمضان يسافر المغرب    فيران توريس بعد التألق مع منتخب إسبانيا فى يورو 2024: لن أغادر برشلونة    «رحلة التميز النسائى»    مع ارتفاع درجات الحرارة.. «الصحة» تكشف أعراض الإجهاد الحراري    بائع يطعن صديقة بالغربية بسبب خلافات على بيع الملابس    وزيرة التخطيط: حوكمة القطاع الطبي في مصر أداة لرفع كفاءة المنظومة الصحية    لتكرار تجربة أبوعلى.. اتجاه في الأهلي للبحث عن المواهب الفلسطينية    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم بالطريق الإقليمي بالمنوفية    جهاز تنمية المشروعات يضخ تمويلات بقيمة 51.2 مليار جنيه خلال 10 سنوات    انفراجة في أزمة صافيناز كاظم مع الأهرام، نقيب الصحفيين يتدخل ورئيس مجلس الإدارة يعد بالحل    شيخ الأزهر يستقبل السفير التركي لبحث زيادة عدد الطلاب الأتراك الدارسين في الأزهر    أستون مارتن تكشف عن أيقونتها Valiant الجديدة    شوبير يكشف شكل الدوري الجديد بعد أزمة الزمالك    وفاة الفنان العالمي بيل كوبس عن عمر يناهز ال 90 عاما    مواجهات عربية وصدام سعودى.. الاتحاد الآسيوى يكشف عن قرعة التصفيات المؤهلة لمونديال 2026    "قوة الأوطان".. "الأوقاف" تعلن نص خطبة الجمعة المقبلة    هل استخدام الليزر في الجراحة من الكيِّ المنهي عنه في السنة؟    محافظ المنيا: تشكيل لجنة للإشراف على توزيع الأسمدة الزراعية لضمان وصولها لمستحقيها    حمى النيل تتفشى في إسرائيل.. 48 إصابة في نصف يوم    تجديد حبس متهم بقتل زميله في العمل بالتجمع الخامس    تفاصيل إطلاق "حياة كريمة" أكبر حملة لترشيد الطاقة ودعم البيئة    تفاصيل إصابة الإعلامي محمد شبانة على الهواء ونقله فورا للمستشفى    أستاذ علوم سياسية: الشعب الأمريكي يختار دائمًا بين رئيس سيء وأخر اسوأ    ضبط سلع منتهية الصلاحية بأرمنت في الأقصر    أمين الفتوى: المبالغة في المهور تصعيب للحلال وتسهيل للحرام    21 مليون جنيه حجم الإتجار فى العملة خلال 24 ساعة    زحام مرورى بسبب انقلاب سيارة نقل ثقيل على طريق الواحات الصحراوى    مقتل وجرح عدد من الفلسطينيين فجر اليوم إثر قصف إسرائيلي استهدف 5 منازل سكنية في حيي الصبرة والشجاعية شمال قطاع غزة    بكين تعارض إدراج الاتحاد الأوروبى شركات صينية فى قائمة عقوباته    أماكن صرف معاشات شهر يوليو 2024.. انفوجراف    الصحة تحذركم: التدخين الإلكترونى يزيد من خطر الإصابة بالنوبات القلبية    ليه التزم بنظام غذائي صحي؟.. فوائد ممارسة العادات الصحية    طلب غريب من رضا عبد العال لمجلس إدارة الزمالك    حظك اليوم| برج السرطان الخميس 27 يونيو.. «يوم مثالي لأهداف جديدة»    الكشف على 1230 مواطنا في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    هل يوجد شبهة ربا فى شراء شقق الإسكان الاجتماعي؟ أمين الفتوى يجيب    انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتب ليزيل نفسه من التاريخ
نشر في صوت البلد يوم 22 - 06 - 2016

كتب تشارلز بوكوفسكي من خارج الكتابة. من خارج الحياة «المعهودة» وثيماتها. لم ترتكز كتاباته على اجتهادات إيديولوجية أو سياسية أو فلسفية. اجتهاد واحد حكم أعماله: القرف. علاقة أبيه وأمه المضطربة والعنيفة، ساهمت في بلورة هذه النزعة لديه. إذ كان يتلقى الصبي تشارلز عقاباً شديداً من والده، وأحياناً من دون أي سبب. قبل أن يقرر في مرحلة لاحقة بأنه آن الأوان ليقف وجهاً لوجه قبالة الأب، ويرد له اللكمة بلكمة، من دون أن تبادر الأم إلى فعل أي شيء. تربيته العنيفة كانت أشبه بتثبيت مقلع في داخله فنحا بوكوفسكي عكس الاعتبارات الأخلاقية والتقليدية. ساهم في ذلك الفقر الذي خبره مع الكساد العظيم أوائل العشرينات. وكان من الطبيعي أن ينسحب كل هذا على أدبه وحياته.
مجموعته القصصية «جنوب بلا شمال» (دار الجمل، ترجمة أماني لازار) نموذج لكتابة الوحدة. نحن أمام حكايا تطارد القصص، الأمكنة، تبحث عن النساء والإغواء وكل ما قد يؤجج الجسد، في صالات السينما الحقيرة، في السيارات، في البيوت، في الإعلانات، والمرابع الليلية والحانات والبارات وبيوت البغاء. بوكوفسكي يضغط العالم إلى باحة خلفية للرغبات. فالإنسان مختزلاً إلى مجرد وسيط مادي لغريزتي الجنس والبقاء. إنهما منفصلتين في كتبه. مقابل هذا الاحتفاء الديناميكي بالرغبة، فإن بوكوفسكي، ينصب لنا عدمية قاسية في هذه القصص. إننا في نهاية الأمر محكومون. فالمشاعر آيلة إلى الانتهاء والحب لا بد أن يتوقف عن العمل، فلا يعود لهذه العلاقة بين الجسد والعاطفة أي أساس أو معنى. نحاول أن نكرر اللعبة مجدداً، مطاردة أجساد الآخرين لملء رغبة أو إيغو، محاولين تمويه هذه المطاردة بسلوكات نظن أنها أكثر إحكاماً أو إقناعاً. كالتظاهر بالنبل والاحترام. ممرات مموهة للوصول إلى الجنس وتكريس الذات.
بوكوفسكي بهذا المعنى، عاش وفياً للمجون. كان جسده، بمنطقه الحسي ووظائفه المباشرة وغرائزه المسيطرة على سلوكه، فلسفته الوحيدة. نواة تمرده. مقاربة عاكست اعتبارات أدباء عرفوا بإيلائهم عوالم الجسد اهتماماً كبيراً في أعمالهم، مثل د. ه. لورانس أو هنري ميللر. فبوكوفسكي لا يملك غطاء فلسفياً، أو عمقاً مجازياً لأعماله. يريد أن يسمعنا صوته فقط. صوته الأدبي، الآتي من عالم مطمور، سحيق، مكتوم أو متجاهل.
في أدبه عكس المعادلة. جعل هذا العالم الذي تنبذه الأخلاق يترفع بصراحته على كتّاب الأخلاق أنفسهم. لأنه عالم مؤسس على واقع صلب، وليس مطوراً وفق أجندات سياسية موضوعة سلفاً. الأدب ليس مجبراً على الاحتفاء بالمنظومات الأخلاقية، والتي تتناسل وتتطور وفق المصلحة السياسية العليا ونهم قلة من المتنفذين لإحكام قبضتها على فئة كبيرة في المجتمع. بل إن بوكوفسكي ساءل الأخلاق نفسها، بالأحرى قَلَبها كما تُقلب الأمعاء. فقأ الأخلاق، القشرة الواهية التي يتخفى تحتها مجتمع مضطرب نفسياً، مستعر بالجنس، تواق إلى المجون والسلطة والتملّك.
ليس بوكوفسكي أول من انسحب من الحياة، ليغلق على نفسه في قوقعة ضيقة. بروست هو النموذج الأبرز في هذا المجال، وإن كان مدفوعاً بالمرض. كان يجمع أصدقاءه كل فترة حواليه، يتبادل معهم الأحاديث، ويستطلع ما يجري في الحياة من خلالهم، ومن ثم ينزل، منهكاً، إلى الشوارع الباريسية الضيقة التي تحيط ببيته، معايناً الغرباء وسلوكهم، «مفلتراً» شخصياتهم لإمرارها في أدبه. أما بوكوفسكي، فسيترك انتشار حَبّ الشباب في جسده، أثراً حاسماً في علاقته بحواسه واستعار رغباته. إذ إنه عندما سيشفى، سيكون المرض قد ترك عشرات الحُفر في وجهه، كتذكار لئيم، وبصمة بارزة على قبحه. لتبدأ علاقة جدلية نحو تكريس هذا الجسد، بين الاحتفاء به أو رميه كيفما اتفق في تجارب عاطفية وجسمانية.
قد يصح القول إن بوكوفسكي عاش ليزيل نفسه من التاريخ، لا ليمكث فيه. لم يكن الأدب بالنسبة إليه أكثر من فم كبير، فم بذيء وغاضب. كان يمكن أن يفرّغ غضبه في أية حرفة أخرى، كتقطيع الخشب مثلاً أو جمع قناني الزجاج والبلاستيك. أي شيء لا يترك أثراً. لهذا، فإن كتابات بوكوفسكي تجعله مقيماً في عالمين. فهو مكرس لدى القراء، غير أنه مجرد حالة «غير مقنعة» أدبياً لدى عدد من الكتاب والأكاديميين. لهذا، لن يشكل أبداً حالة مستقرة مثل جويس أو فولكنر أو همنغواي.
كتب تشارلز بوكوفسكي من خارج الكتابة. من خارج الحياة «المعهودة» وثيماتها. لم ترتكز كتاباته على اجتهادات إيديولوجية أو سياسية أو فلسفية. اجتهاد واحد حكم أعماله: القرف. علاقة أبيه وأمه المضطربة والعنيفة، ساهمت في بلورة هذه النزعة لديه. إذ كان يتلقى الصبي تشارلز عقاباً شديداً من والده، وأحياناً من دون أي سبب. قبل أن يقرر في مرحلة لاحقة بأنه آن الأوان ليقف وجهاً لوجه قبالة الأب، ويرد له اللكمة بلكمة، من دون أن تبادر الأم إلى فعل أي شيء. تربيته العنيفة كانت أشبه بتثبيت مقلع في داخله فنحا بوكوفسكي عكس الاعتبارات الأخلاقية والتقليدية. ساهم في ذلك الفقر الذي خبره مع الكساد العظيم أوائل العشرينات. وكان من الطبيعي أن ينسحب كل هذا على أدبه وحياته.
مجموعته القصصية «جنوب بلا شمال» (دار الجمل، ترجمة أماني لازار) نموذج لكتابة الوحدة. نحن أمام حكايا تطارد القصص، الأمكنة، تبحث عن النساء والإغواء وكل ما قد يؤجج الجسد، في صالات السينما الحقيرة، في السيارات، في البيوت، في الإعلانات، والمرابع الليلية والحانات والبارات وبيوت البغاء. بوكوفسكي يضغط العالم إلى باحة خلفية للرغبات. فالإنسان مختزلاً إلى مجرد وسيط مادي لغريزتي الجنس والبقاء. إنهما منفصلتين في كتبه. مقابل هذا الاحتفاء الديناميكي بالرغبة، فإن بوكوفسكي، ينصب لنا عدمية قاسية في هذه القصص. إننا في نهاية الأمر محكومون. فالمشاعر آيلة إلى الانتهاء والحب لا بد أن يتوقف عن العمل، فلا يعود لهذه العلاقة بين الجسد والعاطفة أي أساس أو معنى. نحاول أن نكرر اللعبة مجدداً، مطاردة أجساد الآخرين لملء رغبة أو إيغو، محاولين تمويه هذه المطاردة بسلوكات نظن أنها أكثر إحكاماً أو إقناعاً. كالتظاهر بالنبل والاحترام. ممرات مموهة للوصول إلى الجنس وتكريس الذات.
بوكوفسكي بهذا المعنى، عاش وفياً للمجون. كان جسده، بمنطقه الحسي ووظائفه المباشرة وغرائزه المسيطرة على سلوكه، فلسفته الوحيدة. نواة تمرده. مقاربة عاكست اعتبارات أدباء عرفوا بإيلائهم عوالم الجسد اهتماماً كبيراً في أعمالهم، مثل د. ه. لورانس أو هنري ميللر. فبوكوفسكي لا يملك غطاء فلسفياً، أو عمقاً مجازياً لأعماله. يريد أن يسمعنا صوته فقط. صوته الأدبي، الآتي من عالم مطمور، سحيق، مكتوم أو متجاهل.
في أدبه عكس المعادلة. جعل هذا العالم الذي تنبذه الأخلاق يترفع بصراحته على كتّاب الأخلاق أنفسهم. لأنه عالم مؤسس على واقع صلب، وليس مطوراً وفق أجندات سياسية موضوعة سلفاً. الأدب ليس مجبراً على الاحتفاء بالمنظومات الأخلاقية، والتي تتناسل وتتطور وفق المصلحة السياسية العليا ونهم قلة من المتنفذين لإحكام قبضتها على فئة كبيرة في المجتمع. بل إن بوكوفسكي ساءل الأخلاق نفسها، بالأحرى قَلَبها كما تُقلب الأمعاء. فقأ الأخلاق، القشرة الواهية التي يتخفى تحتها مجتمع مضطرب نفسياً، مستعر بالجنس، تواق إلى المجون والسلطة والتملّك.
ليس بوكوفسكي أول من انسحب من الحياة، ليغلق على نفسه في قوقعة ضيقة. بروست هو النموذج الأبرز في هذا المجال، وإن كان مدفوعاً بالمرض. كان يجمع أصدقاءه كل فترة حواليه، يتبادل معهم الأحاديث، ويستطلع ما يجري في الحياة من خلالهم، ومن ثم ينزل، منهكاً، إلى الشوارع الباريسية الضيقة التي تحيط ببيته، معايناً الغرباء وسلوكهم، «مفلتراً» شخصياتهم لإمرارها في أدبه. أما بوكوفسكي، فسيترك انتشار حَبّ الشباب في جسده، أثراً حاسماً في علاقته بحواسه واستعار رغباته. إذ إنه عندما سيشفى، سيكون المرض قد ترك عشرات الحُفر في وجهه، كتذكار لئيم، وبصمة بارزة على قبحه. لتبدأ علاقة جدلية نحو تكريس هذا الجسد، بين الاحتفاء به أو رميه كيفما اتفق في تجارب عاطفية وجسمانية.
قد يصح القول إن بوكوفسكي عاش ليزيل نفسه من التاريخ، لا ليمكث فيه. لم يكن الأدب بالنسبة إليه أكثر من فم كبير، فم بذيء وغاضب. كان يمكن أن يفرّغ غضبه في أية حرفة أخرى، كتقطيع الخشب مثلاً أو جمع قناني الزجاج والبلاستيك. أي شيء لا يترك أثراً. لهذا، فإن كتابات بوكوفسكي تجعله مقيماً في عالمين. فهو مكرس لدى القراء، غير أنه مجرد حالة «غير مقنعة» أدبياً لدى عدد من الكتاب والأكاديميين. لهذا، لن يشكل أبداً حالة مستقرة مثل جويس أو فولكنر أو همنغواي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.