يضمّ كتاب "عندما تتوهج الكلمة" عدداً من المقالات النظرية، والدراسات التطبيقية التي تشغل بال الأدباء والنقاد والمهتمين بالأدب العربي بشكل عام، ومن بين هذه القضايا التي يتعرّض لها المؤلف في الكتاب قضايا مهمة مثل: السلطة التاريخية للنص، وخطاب الشعر المعاصر، وحوار الحضارات، والومضة السردية في النصوص الأدبية، وما يعتبره المؤلف د. عبدالرحيم الكردي (علم اللغة الكونية عند ابن عربي)، بالإضافة إلى قضية التاريخ. كما يضمّ الكتاب بالإضافة إلى ما سبق من قضايا أدبية عدداً من الدراسات التطبيقية الأدبية، وأهمها دراسة حول شاعري الوفاق والثورة أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر، والثورة في رواية الأديب المصري الراحل الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ، ودراسة حول السرد وكينونة الإنسان، والواقعية الروحانية في أهل البحر، بالإضافة إلى قراءة في أعمال إبداعية مختارة، ودراسة حول الواقعية الإنسانية في رواية "جمرات من ثلج" للأديبة اللبنانية مها خير بك. إلا أن من أهم المقالات التي يتضمّنها الكتاب هو المقال الذي تناول قضية "جدلية الحداثة العربية". في هذا المقال يتناول الكتاب مصطلحاً في غاية التعقيد، وهو مصطلح "الحداثة"، وهو مصطلح شائك في الفكر والثقافة العربية، وشكّل هذا المصطلح حتى الآن نقطة ساخنة، بل وفي بعض الأحيان نقطة ملتهبة في العلاقة بين المثقفين العرب من جهة، وبين المجتمعات المحلية التي يعيشون فيها من جهة أخرى. وارتبط مصطلح "الحداثة" لدى القطاع الذي يصف نفسه بأنه القطاع المستنير في الثقافة العربية ب "التجديد"، بينما ارتبط نفس المصطلح لدى قطاع آخر في البيئة الثقافية العربية ب "التغريب"، بل وتفكيك الثقافة العربية. يقول المؤلف: إن مصطلح "الحداثة" لم يظهر في السياق الثقافي العربي فجأة بلا مقدمات تاريخية وعلمية لهذا المصطلح، ويعتبر المؤلف أن هناك جذورا لمصطلح "الحداثة" تعود للعصر الأموي عندما ظهرت ثنائية ثقافية وأدبية في هذا الوقت المبكر من تاريخ الثقافة العربية، وهي ثنائية "القدماء والمحدثين"، كما ظهر تجلٍّ آخر لمصطلح الحداثة في البيئة الثقافية العربية مع ظهور مصطلح "البديع". أما الحلقة الثالثة من حلقات تجليات الحداثة في البيئة الثقافية العربية فهي التي ظهرت مع بداية القرن التاسع عشر على يد رفاعة رافع الطهطاوي وآخرين مع ظهور مصطلح "التجديد" في الثقافة العربية، حيث اقتبس رفاعة الطهطاوي مصطلح التجديد من الحديث النبوي الشريف {إنّ الله يَبْعَثُ لهذه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مِائةِ سنةٍ مَنْ يجدِّد لها دينَها}. رواه أبوداوود في "سننه" من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. لكن رفاعة الطهطاوي وضع في هذه الفترة ثلاثة شروط للتجديد وهي: 1- عدم مخالفته لأصول التشريع الإسلامي. 2- أن يكون جديداً في استنباطه لأحكام معاصرة تتلاءم مع روح العصر. 3- أن يكون نابعاً من خبرة وذوق وتقوى وليس من تهويمات خيالية. ثم جاء الإمام محمد عبده ليكمل الخيط الذي أمسك بدايته رفاعة رافع الطهطاوي ليعتبر أن التجديد هو المفهوم المناقض لمفهوم الجمود أو التقليد الأعمى. أما الحلقة الرابعة من حلقات الحداثة فهي التي شهدت الصراع بين الأيديولوجية الغربية الليبرالية والأيديولوجية الشرقية الاشتراكية، لكن أحدث هذه المراحل وأخطرها هي المرحلة الخامسة الحالية التي انصرف فيها مفهوم الحداثة، إلى أن يحل محل جميع المصطلحات الدالة على التجديد في الثقافة العربية، وبما يعني كل ما هو نقيض للجمود والرجعية والتخلف. ويخلص المؤلف إلى أن الأزمة الحالية التي يُعاني منها مصطلح (الحداثة) في الثقافة العربية، هي أن هذا المصطلح في الوقت الراهن ارتبط بظروف نشأته، بفترة الهزيمة العسكرية والحضارية والانكسار الحضاري والتراجع الثقافي والاجتماعي العام في العالم العربي. كما أن أحد أهم الأزمة التي يُعاني منها مصطلح الحداثة الآن هو أن البعض سواء بقصد أو بغير قصد، وعن حسن نية أو سوء نية، ربط بين مصطلح الحداثة، وفكرة العولمة التي تستهدف تحطيم الثقافات المحلية في المجتمعات غير الغربية، بزعم أن الثقافة والحضارة الغربية تتفوق على ما عداها من حضارة وثقافة. وأخطر جانب من هذه الأزمة التي وقع فيها ما يمكن تسميتهم ب "الحداثيين العرب" أنهم وقعوا بين متناقضين أساسيين، هما "الحداثة" باعتبارها تجديداً للخطاب الثقافي في المجتمعات العربية، ومن ناحية أخرى "العولمة"، باعتبارها دعوة إلى تفكيك وتحطيم بنية الثقافات والبنى الثقافية المحلية. لكن المؤلف يشير في كتابه إلى أزمة بنيوية في تفكير من يسمون ب "الحداثيين العرب"، وهي أن الغالبية العظمى منهم كانت تتبنى أفكاراً يسارية واشتراكية، وعندما انهارت المنظومة الاشتراكية تحوّلوا للأفكار الغربية الليبرالية، أو تحوّل بعضهم، مما دفع هذا البعض إلى محاولة تقديم أفكار حداثية غربية ببعض ثياب الأفكار الاشتراكية التي لا يزال متأثراً ببعض أفكارها. ويخلص المؤلف من ذلك إلى أن المشكلة الكبرى التي يُعاني منها من يسمون ب "الحداثيين العرب" هم أنهم ارتموا بالكامل في أحضان الغرب، وتبنوا المقولات الغربية في الثقافة والفكر والمجتمع بالكامل، وهو ما جعل هؤلاء "الحداثيون العرب" يواجهون مقاومة من مجتمعاتهم الأصلية التي يعيشون فيها ويتكلمون ويكتبون بلغاتها، لأنهم ببساطة يفكرون بلغة أخرى، ويعتبرون الحداثة مجرد هدم للقديم واستبداله بالجديد وليس تجديد الخطاب والمحتوى الثقافي الأصلي للمجتمع. وأخطر ما قام به "الحداثيون العرب" في هذا الإطار هو أنهم لجأوا لتفكيك النصوص الدينية المقدّسة، والتعامل معها بأدوات حداثية، مما جعلهم يتعرّضون للمقدس لدى الشرقيين والعرب بطريقة تتصادم مع قدسية النص القرآني أو الحديث الشريف، وهي قدسية لا تقبل التفكيك ولا التأويل لارتباط التسليم بها وبصدقيتها بالإيمان الكامل بقواعد وأصول الدين. يذكر أن كتاب "عندما تتوهج الكلمة" للدكتور عبدالرحيم الكردي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويقع في نحو 240 صفحة من القطع الكبير.