قديما تداول الموسيقيون حكمة مفادها أن من لا يستطيع العزف على العود لا يستحق أن يكون موسيقيا، لكن غزو التكنولوجيا للفن جعل آلة العود تدفع الثمن غاليا، بعدما تخلى أغلب الموسيقيين عن العزف عليها. تراجع مكانة العود الفنية يسببت في تدهور صناعته التي كانت في وقت ما محل تنافس بين ورش تصنيع الآلات الموسيقية في شارع محمد علي الشهير بوسط القاهرة، والذي يعرف بأنه شارع الفن. بمجرد أن تدلف إلى الشارع الرابط بين ميدان العتبة وشارع عبدالعزيز بقلب العاصمة المصرية، تصادف القليل من المحلات المتخصصة في صناعة آلة العود التي تحاول مقاومة التراجع، بينما استسلمت محلات أخرى كثيرة فتركت الصناعة العريقة وتحولت إلى بيع الأثاث، وورش لطباعة الكروت المهنية (بيزنس كاردز) واللوحات النحاسية التي توضع على أبواب البيوت للتعريف بأصحابها. الحاج سمير حميدو أحد أصحاب ورش تصنيع العود في شارع محمد علي الذي يحترف تلك الصنعة منذ حوالي 50 عاما، قال إنه تعلمها من جده لأمه، وعشقها، خاصة بعد أن سمح له وجوده في الورشة بمشاهدة المطربين، مثل الموسيقار محمد عبدالوهاب ومحمد فوزي، ومصافحتهم وتبادل الأحاديث الودية معهم، بعد أن كان يسمعهم فقط في الراديو. عن أنواع العود قال، إنها كثيرة، فمنها العود التعليمي للمتدربين الناشئين، وهناك العود الحريمي الذي يتميز برقبة طويلة وصندوق صغير لتسهيل حمله على المرأة والعزف عليه، مشيرا إلى أن العود يميز شخصية صانعه، ويستطيع المحترفون في هذه الصناعة والعازفون أيضا تمييزه من الرقبة والقصعة والوجهة وهي مكونات جسد العود. وأكد حميدو أن صانع العود ليس بالضرورة يجيد العزف عليه، لكنه يجب أن يكون متذوقا للنغمات ولديه أذن موسيقية لأن صناعته تحتاج إلى “مزاج”، مشيرا إلى أنه يقوم بتعليم أبنائه وأحفاده هذه الحرفة، حتى لا تخرج أسرارها من ورشته التي بقيت تقاوم الانقراض، بعدما باع بعض جيرانه ورشهم التي ورثوها عن أجدادهم وآبائهم، لأن الصناعة أصبح ربحها غير كاف على عكس ما كانت عليه قديما. وأضاف صانع العود، أن الخشب المستخدم في صناعة العود ونوعيه تؤثر بلا شك في صوت النغمات المعزوفة عليه، فكلما كان الخشب جيدا كانت نغماته أكثر صفاء، لذلك يحرص على شراء الأخشاب بنفسه من أماكن معروفة له يتعامل معها منذ عقود. وقال إن أنواع العود وأشكاله المختلفة، وكذلك نوع الخشب المستخدم فيه، تحدد أسعاره التي تبدأ من 150 دولارا أميركيا، وتتصاعد لتصل إلى أكثر من ألف دولار، كما أن بعض العاشقين للعود يرصعونه بالأحجار الكريمة والماسية، ما يكلفهم ثروة هائلة. العود من آلات الموسيقى الشرقية له سبعة أوتار من خيوط مصنوعة من أحشاء الحيوانات، وقد اهتمت مصر بدراسته وتخصيص عدة أماكن لتعليمه والتدريب عليه مثل دار الأوبرا المصرية، ومعهد الموسيقى العربية، والكونسرفتوار، ومؤخرا بيت العود الذي أنشأه الفنان العراقي نصير شمة، وجعل مقره في بيت الهراوي أحد البيوت التاريخية العريقة وسط القاهرة. خليل لطفي صاحب ورشة أخرى لصناعة العود، شاهدته “العرب” وهو جالس أمام باب ورشته يحتضن عودا مصنوعا من خشب الزان بين ذراعيه في المرحلة النهائية من تصنيعه، حيث كان يمسك بالريشة ويقوم بعمل ما يسمى “الدوزنة” لضبط الأوتار، بما يتوافق مع النغمات الشرقية. وبعد أن انتهى من عمله قال، إن عائلته تعمل في هذه الصناعة منذ أكثر من 60 عاما، وقد تعلمها هو عندما بلغ العاشرة من عمره، حيث كان يأتي مع أبيه ليشاهده هو وجده يصنعان آلات العود المختلفة. خليل اعترف بأن الصناعة تعرضت للكثير من المشاكل في الفترة الأخيرة متأثرة بصعوبة الأحوال الاقتصادية، أبرزها ارتفاع أسعار الخشب المستخدم في صناعة العود، وكذلك قلة أعداد السائحين العرب والأجانب الذين كانوا يأتون لشراء الأنواع الثمينة من العود. وحول أنواع الخشب المستخدمة في صناعة العود قال لطفي “تتنوع بين الزان والفنجي والمجنة والبليساندر والساج والأبنوس وكل نوع منها يؤثر على صوت النغمة وحلاوتها ورنتها في آذان المستمعين”. وقد احتار المؤرخون كثيرا في إرجاع نشأة العود لأي الحضارات، لكن دلت نقوش أثرية مصرية أن الفراعنة عرفوا هذه الآلة في فترة ما قبل الميلاد، بعدما جاءت من بلاد الشام واستخدموها في العزف. ودلت الاكتشافات على أنواع من العود استخدمها الفراعنة، منها شكل الكمثرى الذي عثروا على ثلاثة أعواد بهذا الشكل في مقبرة أبو صير بالقرب من محافظة بني سويف في جنوب مصر، موجودة الآن بمتحف الفنون في ألمانيا. كما عُثر على عود يرجع إلى 300 قبل الميلاد في مدافن طيبة، ذي رقبة طويلة وصندوق بيضاوي ويدق على أوتاره بريشة خشبية مربوطة فيه بحبل، وتؤكد المصادر التاريخية أن أقدم آلة عود عرفتها بلاد ما بين النهرين كانت من العصر الأكادي وموجودة الآن في المتحف البريطاني، وتم اكتشافها في عام 1933 ميلادي كما ظهر العود في إيران في القرن الخامس عشر ميلادي. ويرجع فضل صناعة العود وكذلك الآلات الوترية الأخرى إلى الحضارات السورية التي نقلت الصناعة من شرق آسيا إلى شبه الجزيرة العربية، وانتقلت في ما بعد إلى سائر البلدان العربية.