ما زال رجل الأعمال أشرف مروان، صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، يمثل لغزا حتى الآن رغم وفاته منذ سنوات. لكن في واقع الأمر كان مروان – وبشهادة الخبراء الإسرائيليين أنفسهم – ركيزة أساسية من خطة الخداع الاستراتيجي التي اعتمد عليها الرئيس الراحل أنور السادات، قبل وبعد حرب أكتوبر المجيدة، ولعل مقالة رجل المخابرات الإسرائيلي خلال حرب أكتوبر والمؤرخ العسكري، شمعون مندس، التي نشرها مؤخرا على موقع مجلة الشرق الأوسط العبرية، تعد بمثابة صك البراءة لأشرف مروان، بعد أن تشكك الكثيرون في ولائه لمصر، نظرا للحملة القذرة التي يشنها الإعلام الإسرائيلي ضده في السنوات الأخيرة. وأكد مندس في مقاله أن مروان يعد بمثابة أكبر فخ صنعه الرئيس السادات للإسرائيليين، مشيرا فيه إلى أنه من أجل فهم عملية الخداع العسكرية المصرية التي أدت لاندلاع حرب السادس من أكتوبر عام 1973 من المهم معرفة بداية هذه العملية التي يرجع تاريخها إلى عام 1969، مع بداية التحول الجذري في الفكر العسكري المصري، في مواجهة حالة الجمود الفكري التي سيطرت على قادة هيئة الأركان العامة الإسرائيلية، وهذا التغيير الفكري له دلالتين مهمتين أساسيتين، بدأ بدخول أشرف مروان لمقر السفارة الإسرائيلية في لندن، وأنتهى بمقولة السادات التي نقلها المشير عبد الغني الجمسي: "إنني أحذركم من استخدام التفكير التقليدي، لأن هذا ما يتوقعه العدو مننا، فانتصارنا يجب أن يقوم على عنصر المفاجأة". وتابع المؤرخ العسكري الإسرائيلي مقاله قائلا: " لقد نجح الرئيس السادات في خداع إسرائيل في حرب أكتوبر بثلاث خدع "شربتها" إسرائيل كلها، على حد وصفه، مضيفا أنه حسبما ذكر البروفيسور جوان فريس الخبير في عمليات الخداع العسكري، فإنه يوجد نوعان من الخداع العسكري، هم التضليل والتشويش. وهنا يبدو أن الرئيس السادات اخترع طريقة أخرى مختلفة للخداع العسكري، وهي طريقة التخدير. فقد نجح الرئيس المصري في تخدير القيادة الإسرائيلية وتنويمها، من خلال أشرف مروان، الذي لعب الدور الرئيسي في هذه العملية، التي أصابت إسرائيل بالخمول واللامبالاة حيال التحذيرات من قيام مصر بشن الحرب على إسرائيل. وتساءل الخبير الإسرائيلي كيف نجح السادات في تنفيذ ذلك؟.. مجيبا أن السادات اتبع تكنيكا وفكرا استراتيجيا لم تعتده إسرائيل من قبل على مصر. فبدلا من ان يذهب الموساد إلى جبل "الأسرار" المصري. قام السادات بإحضار هذا الجبل له. تلك الحقيقة التي أصابت قادة الموساد بالتخبط والحيرة، لأن الطبيعي كان هو العكس. ففي إطار عملية الخداع العبقرية – وهذا أقل ما توصف به كما يقول مندس في مقاله – فقد أحضر السادات مكتبه إلى القيادة الإسرائيلية، وكأنها باتت شريك رئيسي في التخطيط للحرب ( حسب شهادة رئيس الموساد السابق تسيفي زامير خلال فترة حرب أكتوبر). ويوضح الضابط السابق في المخابرات الإسرائيلية أن هناك مثل إنجليزي يقول " المعلومة هي القوة " وفي عالم المخابرات هذا يعني أنه يجب أن تغلق المعلومات داخل الخزينة، لكن ما فعله السادات كان العكس، فقد فتح خزينة معلوماته أمام قيادات ورؤساء المخابرات الإسرائيلية، وأظهر لهم أنه لا يوجد بها سندات مالية كبيرة القيمة، وأن ما بها مجرد أموال قليلة، وبهذه الأموال القليلة لا يمكن الخروج بها للحرب. وحسب البرفيسور ميخال هيندل " النوايا السياسية والعسكرية من السهل للغاية إخفاؤها " وهذا ما فعله السادات، أخرج من خزينته السندات الغالية، أي أنه استطاع إخفاء نواياه للحرب، وبذلك استخدم قوة المعلومة بشكل مدهش، واستطاع ان يخدر المخابرات الإسرائيلية، لأن التصرف المخابراتي الذي انتهجه السادات كان مخالفا لأي منطق. وتناول المؤرخ الإسرائيلي بعد ذلك مراحل خطة الخداع الاستراتيجي التي وضعها السادات، مشيرا إلى أنها مكونة من ثلاثة مراحل.. عملية الخداع الأولى التي مارسها السادات على إسرائيل هي عملية التخدير والتي انتهت في يوم الأربعاء 3 أكتوبر 1973 عندما رأى المصريون بأن "المشاهد" قد نام، وأصبح الجيش الإسرائيلي في سبات عميق. بعدها جاء دور أشرف مروان لإتمام هذه المرحلة من خطة الخداع الاستراتيجي، وذلك عندما قام السادات بإرسال أشرف مروان إلى لندن للقاء تسيفي زامير رئيس الموساد، ويبلغه بأن الحرب ستندلع غدا. وهذا اللقاء يشبه اللقاء الذي جمع عاهل الأردن الملك عبد الله في 25 سبتمبر 1973 مع جولدا مائير في تل أبيب، وكان يرغب السادات في أن يوجه رسالة الحرب لجولدا مائير بشكل مباشر، حيث أن رئيس الموساد يتبع لها مباشرة، ويمكنه ان يتصل بها هاتفيا عشية يوم الغفران، ويحذرها من الحرب القادمة، وذلك لكي تكون صدمة الحرب فورية، وأن تقوم إسرائيل بأخذ المبادرة بشن الحرب على مصر، وذلك بهدف توريط إسرائيل سياسيا أمام الولاياتالمتحدةالأمريكية. ومن ناحية السادات فإن هذا الأمر ليس مجرد مراهنة، فالجيش المصري كان على أهبة الاستعداد للحرب، وإن "حائط الصواريخ" الذي بناه خصيصا لإسرائيل أصبح جاهزا لوقف أي تدخل جوي عسكري إسرائيلي، وهو ما تسبب في سقوط نحو 120 طائرة حربية إسرائيلية في أول ثلاثة أيام من الحرب. وحسب المؤرخ العسكري الإسرائيلي فقد تعاظم دور أشرف مروان في عملية الخداع الاستراتيجي خلال الحرب نفسها، فبعد تفوق الجيش المصري خلال الأيام الأولى من حرب أكتوبر، وانهيار الجيش الإسرائيلي من الناحية العملية والمعنوية، خلصة بعد طلب جولدا مائير في الثاني عشر من أكتوبر بوقف النار مع مصر، حينها رأى الرئيس السادات أن الانتصار على إسرائيل بات في جيبه، وأن اهتمامه أصبح مركزا على المستقبل فيما بعد الحرب. وطبقا لما ذكره تسيفي زامير رئيس الموساد السابق، فقد قام أشرف مروان بالاتصال به من القاهرة محذرا إياه من هجوم وشيك من جانب قوات المدرعات المصرية في غد يوم 12 اكتوبر وهو ما رسخ مكانة مروان كعميل وفي وصادق لصالح الموساد، خاصة وأن العملية التي حذره منها تمت في 14 أكتوبر، لكن الحقيقة كانت غير ذلك تماما، فمروان بالفعل كان يحذر إسرائيل، لكن بصوت السادات. وكانت هذه المعركة من أكبر المعارك الحربية في التاريخ ففي مقابل 1200 دبابة مصرية كانت تواجهها 90 دبابة إسرائيلية في سيناء، لكن بعد خسارة مصرل 250 دبابة في هذه المعركة، أدرك السادات حجم خطأه بعدم الموافقة على طلب جولدا مائير بوقف إطلاق النار، لكن الجزء الثاني من عملية الخداع حققت المرجو منها، وقد حصل مروان في مقابل هذه المعلومة على حافز مالي بلغ 100 ألف دولار، وبعدها واصلت إسرائيل الحصول على المعلومات من اشرف مروان حتى عام 1978. وهنا يأتي دور عملية الخداع الثالثة، والتي فيها حاول السادات ترسيخ مكانة اشرف مروان كعميل لإسرائيل، تمهيدا للعملية السياسية المرتقبة بين مصر وإسرائيل عقب انتهاء الحرب، وقام مروان بالدور المنوط به على أكمل وجه، حيث حذر إسرائيل من اعتزام الرئيس الليبي معمر القذافي تفجير طائرة شركة العال الإسرائيلية في روما. وكانت خدعة الرئيس السادات تكمن في استخدام تهور القذافي الذي أراد الانتقام من إسرائيل على خلفية إسقاط طائرة مدنية ليبية في سيناء في فبراير 1973. وقد قرؤر القذافي إسقاط طائرة العال في روما واستغل السادات العلاقات القوية بين القذافي وأشرف مروان، وخاصة عندما طلب القذافي من مروان مساعدة الخلية الليبية لتنفيذ عمليتها في روما. وبناء على تعليمات من الرئيس السادات، قام مروان بالفعل بمساعدة رجال القذافي، وبناء أيضا على تعليمات السادات قام مروان بإبلاغ رئيس الموساد بمعلومة إسقاط الطائرة الإسرائيلية في روما، وبذلك ارتفعت أسهم أشرف مروان لدى قيادات الموساد. وربما هذا الموقف هو السبب الرئيسي في تدهور العلاقات بين الرئيس السادات والقذافي. وأنهى المؤرخ الإسرائيلي مقاله بالتأكيد على ان الإسرائيليين اكلوا على حد وصفه "البسبوسة المسممة" التي أعدها الرئيس انور السادات وأوصلها لهم أشرف مروان، معترفا أنه مازال يوجد في إسرائيل حتى الآن من مستعد ليأكل من نفس البسبوسة بنهم كبير. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المؤرخ الإسرائيلي شمعون مندس، قد سبق وأن اكد على ان أشرف مروان هو من الذي قام بتجنيد رئيس الموساد زامير للعمل لصالح مصر، وليس العكس مشيرا إلى أن الخطا الكبير الذي وقع فيه رئيس الموساد السابق هو أنه التقى بمروان، الذي نجح بشخصيته القوية في التأثير على رئيس الموساد.