من المعروف أن كل حدث عظيم يزلزل المجتمع ينعكس على الإنتاج الفني، وقد كانت الثورة بمثابة أكبر مفجر للطاقات الإبداعية للملايين حتى إن لم يتبلور حتى الآن وذلك ما يمكن أن نطلق عليه تيار الثورة في الإبداع مهما تعددت واختلفت أشكال الفنون بأنواعها وتبقى كلها في إطار واحد، هو النزعة الثورية ووصف الحدث وتأجيج المشاعر والعزف بالكلمات والألحان على أوتار الأحاسيس والقلوب . النوع الأول من الفنون هو ما يسمى بالفن الرسمي والذي يضم الفنانين الذين الموالين للنظام أيًا كان هذا النظام، ويرتبطون بتوجهات السوق والشركات الرأسمالية التي تتقدم أكثر نحو الاحتكار، وهؤلاء الثورة بالنسبة إليهم موجة لا تختلف عن أي حدث آخر يطرح نفسه على الساحة ويأتي على غرار ذلك ما يسمى بموجة الإسهال في الأغاني والأفلام مصحوبة ببرامج يطرح فيها المبدعين تحليلاتهم العظيمة، وفي السياق نفسه هناك أيضًا الأدباء والفنانون التشكيليون، وإن كانت علاقة الأخيرين بالجمهور تكاد تكون مقطوعة، فنجد أن الأغاني مثلاً تقول بأن شهداء يناير.. ماتوا في أحداث يناير، ومنهجهم في ذلك عادل إمام عندما قال في مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" فوق إنها رقاصة كانت بترقص.. أغاني الثورة حملت ما لا بأس به من الابتذال، الأمر الذي جعلها أكثر إزعاجًا كما حشد كم مهول من الأغاني التي تتحدث عن يللا نبني مصر وعجلة الإنتاج و"متشكرين يا جيشنا يا نافش ريشنا"، وبذلك فإن الفن الشعبي- بكسر الشين- لا يبتعد عن ذلك الفن، مثل كاسيتات الأسواق والميكروباصات، والأصح تسميته بالفن العشوائي وهو الأدق، لأنه من الابتذال والامتهان بدرجة لا يمكن ربطه بأي شعب ولكونه يتنافى مع المفهوم الحقيقي للفن الشعبي، وفي الواقع هذا الفن يعبر عن واقع تحلل وانهيار المجتمع المصري حتى وإن حمل معاني جميلة تبقى الكلمات ركيكة مثل اغاني شعبان عبد الرحيم، ومنها "أنا بكره إسرائيل وبحب عمرو موسى" ويتضح لنا مدى تدني الأفكار، ويجرنا ذلك إلى مفهومنا عن الشعبي الذي أصبح يرتبط عمليًا بالفقر والرخص والعشوائية، بينما تحول ما كان شعبيًا حقيقيًا من أغاني وحواديت، ونسيج وملابس وأواني، وحتى المباني، إلى أرفف التراث. أما النوع الثاني من الفن هو الملتزم، ويضم مجموعات من الفنانين الذين يحملون تقديرًا واحترامًا لأنفسهم ولفنهم كما يتسمون بميل يساري نحو الجماهير، هؤلاء لا يستطيعون أو لا يريدون الدخول في مواجهة مع مؤسسة السلطة ورأس المال ووجدوا متنفسًا في بعض المنافذ، مثل ساقية الصاوي. هؤلاء الفنانون تأثروا بالثورة وتفاعلوا معها بقوة، وكان وجودهم مميزًا في الميدان لكن بغض النظر عن كون بعضهم يحمل ميلاً مستوردًا فإن علاقتهم بالجمهور وقفت عند خط المسرح، وأقصد أن الجمهور ظل متلقيًا، ويلتحق بذلك رسامو الجداريات، وشريحة كبيرة من الشعراء والأدباء وهو ما تبلور عنه فاعليات "الفن ميدان"، والمتوقع مستقبلاً أن يكون هناك رواج لهذه الإبداعات، حيث ستتطلع إليها أعين الشركات، وستلقى دعمًا وترحيبًا من الكثير من المؤسسات. والنوع الثالث هم فنانو الشعب، والمثال الأبرز منهم سيد درويش والشيخ إمام وتميزهم عن الفن الملتزم في كونهم جزءًا من عجينة الشارع من حيث الكلمة والنغمة. وفي أول وأنزَه انتخابات يجريها ميدان التحرير لاختيار مبدعيه لم يكن النوع الأول مطروحًا على الإطلاق وذلك بشكل تلقائي ليس لمجرد مواقف سياسية معادية للثورة أعلنها البعض، ولكن لطبيعة هذا النوع من الأعمال الفنية التي تبتز ملايين الجنيهات، أما النوع الثاني فكما ذكرنا كان متفاعلاً، ومحبوبًا، لكنه وقف عند خط المبدع- المتلقي لم يلتحم فعليًا بالجمهور، وبالتالي لم يكن تلقي الجمهور لإبداعهم مثل تلقيهم لأغاني درويش وإمام، التي لم تكن في الواقع معروفة، حتى اندلاع الثورة لكل الجمهور. وهكذا يُتوج الشيخ إمام (ومَن على نهجه) مبدعًا وفنانًا للثورة ولكن جمهورية التحرير لم تنصب رئيسًا. ولا يمكن أن نغفل أن الشعب المصري هو أكبر فنان بشعاره الذي رفعه من بداية الثورة "الشعب يريد إسقاط النظام" عفوًا لا تقرأها وتنقل عينيك إلى السطر التالي من فضلك انتظر قليلاً واسبل جفنيك ورددها ببطء وحاول أن تسترجع صوت الجماهير في الميدان وتنسم عطر الكلمات، وعندما يختلج جسدك ستشعر حتمًا بما أريد أن أقول. ومما لا شك فيه أن الثورة تفرز الإبداع، ولكن الإبداع في ثورتي تونس ومصر بدأ في شعارها "الشعب يريد إسقاط النظام" وقد اختفى الهتاف المسجوع المشطور مثل "أمن الدولة كلاب الدولة.. دولا عتاولة في نهب الدولة" ومعه أصبح الهتيفة بلا عمل. "الشعب يريد إسقاط النظام" لا تعطي فرصة لالتقاط الأنفاس، فتصير كالهدير تصم آذان الطغاة، يليها كم عظيم من الهتافات التي وُلدت في الميدان و"إيد واحدة" ذلك الشعار الذي اختُطف من الميدان، ليصبح في خدمة اللئام ولافتة "ارحل" كلمة واحدة حلت محل اللافتات القديمة المرتبطة بالهتافات التقليدية. الكل مبدع.. الكل يغني، شيد قصورك، بقرة حاحا.. أهو ده اللي صار.. أصبحت ملكًا للشعب، وهو سر حياة سيد درويش والشيخ إمام رغم وفاتهما جسديًا. الصور واللوحات شعارات الشوارع التي كانت في الأيام الأولي للثورة "ارحل بقى إيدي وجعتني من شيل اليافطة" و"ما بيعرفش عربي كلموه بالعبري" و"مش هنمشي هو يمشي"، ولكن هذا الفن الثوري يؤرخ له ويظل محفورًا في وجدان الشعب، فهو نوع نادر من الفنون شأنه في ذلك شأن الشعارات التي خرجت وأطلقها الشعب في أعقاب النكسة لتأييد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ومطالبته بالعودة بعد قرار التنحي، وأيضًا الشعارات التي أطلقها الشعب في أعقاب نصر أكتوبر 1973. ويبقي الفن المتداول في المناسبات متمثلاً في الأعمال الفنية والأدبية التي تتناول هذا الحدث أو ذاك في احتفالية الشعب كل عام، ولم تتبلور الفنون والآداب بعد الثورة حتى الآن رغم مرور أكثر من عام.