تمر اليوم الذكرى التسعمائة و واحد لوفاة حجة الإسلام و زين الدين كما يُلقب (أبو حامد الغزالي) الذي أثرى المكتبة الإسلامية بدررًا قيمة علمتنا المعنى الصحيح للدين الحنيف بعد أن مر برحلة شيقة و شائكة من الشك إلى اليقين عبر عنها في تلك المؤلفات و نحن في حاجة لمعرفة مؤلفات الغزالي في تلك الأيام التي كثر فيها التكفير و التشكيك في عقيدة كل فرد مسلم بسبب التحزبات ما بين إخوان و سلفيين و جهاديين في فترة متشابهة للفترة التي عاشها حجة الإسلام . ولد أبو حامد محمد الغزالي عام 1058م الموافق 450ه بقرية من قرى طوس بإقليم خراسان و هذا الإقليم ساهم في إشراق شمس الدولة العباسية على يد القائد أبو مسلم الخراساني و نشأ في بيت فقير لعائلة خراسانية من أصل عربي لأب زاهد و متصوف و عالمًا بالعلوم الدينية ممتهنًا صناعة الغزل و كانت لديه رغبةً شديدة في تعليم ولديه (أحمد و محمد) و عند دنو أجله عهد ولديه لرجلاً زاهدًا و متصوفًا في تعليم ولديه و أعطاه من المال الوفير لتعليم الولدان حتى نفذ هذا المال و تم إلحاقهما بمدرسة كانت تقوم بالتكفل بالتلاميذ في ذاك الوقت. تعلم أبو حامد الغزالي الفقه في طوس ثم قدم نيسابور و لازم إمام الحرمين الجويني في نيسابور فأخذ عنه جملة من العلوم في الفقه و أصوله و علم الكلام و المنطق و في تلك الفترة ألف الغزالي كتابه الأول بعنوان (المنخول) و عرضه على شيخه الجويني فأبدى بإعجابه لهذا الكتاب قائلاً (دفنتني وأنا حي! هلا صبرت حتى أموت ؟!) و أجتهد الغزالي في طلب العلم و تحصيله إلى أن تخرج في مدة قريبة جعلته أفضل أهل زمانه و أقرانه في العلوم النقلية. تتلمذ الغزالي على يد الإمام الجويني و أحمد الرازكاني و أبو النصر الإسماعيلي حيث تعلم منهم الفقه و أصوله و الفلسفة و المنطق و علم الكلام و نهل التصوف من معلمه الفضل بن محمد الفارمزي و الشيخ يوسف النساج مما أهله ليكون معلمًا على شاكلة أساتذته حيث بدأ التدريس و إرشاد الطلبة و تأليف الكتب في عهد الإمام الجويني و عند إنتقاله لنيسابور تعرف على الوزير نظام الملك و كان لديه حلقة علم جعلت الغزالي يشتهر بلباقته في المناظرات بين أقرانه مما أكسبه العلم الغزير و المعرفة الوفيرة التي أهلته للقيام بالتدريس في المدرسة النظامية سنة 484ه و أعجب الجميع بمناظراته و طريقة تدريسه كالإمام إبن عقيل و الإمام إبن الخطاب معجبين بكلامه ناقلينه لمصنفاتهم ليكون إمامًا للعراق بعد أن أصبح إمامًا لخراسان و ارتفعت درجته في بغداد على الأمراء و الوزراء و الأكابر و أهل دار الخلافة. مر الغزالي برحلة عميقة ما بين الشك و الإيمان حيث أراد أن يعرف الكثير مما أوقعه في أزمة روحية جعلته يمر بالتلاحم مع علماء الكلام الذين لهم الفضل في تطوير العلم في العقيدة الإسلامية و لكن عاب عليهم النظر بالنكران لكل من لا يؤمن بفكرهم مما أدى إلى إدخال بعض المغالطات في العلوم الشرعية لذلك لم يجد الغزالي ضالته في علم الكلام مما جعله يمر بمرحلة التلاحم مع الفلاسفة ليجد الجدل دائرًا بينهم في الأمور العقائدية بتقسيمهم للعلوم الشرعية أقسامًا مختلفة أدى إلى التناحر الجدلي بينهم مما جعل الغزالي يكتب كتاب (تهافت الفلاسفة) ليفند أرائهم في العلوم العقائدية و الشرعية قائلاً عنهم (فإني رأيتهم أصنافاً، ورأيت علومهم أقساماً؛ وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين، وبين الأواخر منهم والأوائل، تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه). رد عليه العالم الجليل إبن رشد بكتاب (تهافت التهافت) و الذي أحدث ضجة في الأوساط الدينية و الثقافية في ذاك الوقت ليرد على الغزالي و قيل أن كتاب إبن رشد لم يرد الرد الشافي على الغزالي مما جعل موقف الغزالي أقوى من موقف إبن رشد. مر الغزالي بعد ذلك بالمرحلة الباطنية التي وجد فيها التأويل للقرآن و عدم الأخذ بالظاهر و لكن وجد أن التأويل بعيدًا عن الإجتهاد و الرأي و أن التأويل يؤدي إلى شطحات كبيرة قد تصل إلى الكفر و الإلحاد فلم يجد ضالته عندهم. مر الغزالي بمرحلة الصوفية التي وجد فيها المعنى الحقيقي للإيمان عبادةً و عملاً من خلال كتب المتصوفة ك(قوت القلوب لأبي طالب المكي – كتب الحارث المحاسبي – المتفرقات المأثورة عن الجنيد – المتفرقات المأثورة عن الشبلي). بعد مرحلة الصوفية إستطاع الغزالي أن يصل إلى الإيمان و اليقين بعد أن تعب في وجود ضالته و التي جسدها في كتابه الشهير (إحياء علوم الدين). عاد أبو حامد لبلده طوس متفرغًا للعبادة و إرشاد الناس حيث لحظ ضعف إيمانهم بسبب كثرة مغريات الدنيا فكان همه الأكبر هو ترشيد النفس و الروح حيث كانت نظريته في الأخلاق أن ضعف الأخلاق تكمن في ضعف الروح و ليس الجسد فلابد من تقوية الروح بالنواحي الروحانية حتى تقوى الأخلاق و هنا أصبح الغزالي بحق (حجة الإسلام) و تتلمذ على يديه (أبو جلند ابن رزاز – أبو غيث الجبلي – البارباباذي – أبو بكر بن عربي – عبد القادر الجيلاني – أبو العباس الأقليشي). من مؤلفاته (إحياء علوم الدين – تهافت الفلاسفة – الوسيط في فقه الإمام الشافعي – الوجيز في فقه الإمام الشافعي – معيار العلم في المنطق – المنقذ من الضلال – بداية الهداية – الأربعين في أصول الدين – ميزان العمل). توفي الإمام الغزالي الإثنين 14 جماد الآخر من عام 505 ه . الموافق 19 ديسمبر من عام 1111 م و لا زال الغزالي يثري أمتنا الإسلامية بكنوزه وافرة الظلال. مر د/ مصطفى محمود بمرحلة الشك إلى أن وصل إلى الإيمان و هذا ما عبر عنه في كتابين (رحلتي من الشك إلى الإيمان – حوار مع صديقي الملحد) و ليتحفنا بموسوعة (العلم و الإيمان) التليفزيونية ليكون بحق غزالي القرن العشرين.