انقلب الكثير من الليبراليين على رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان بعد سنوات من منحه تأييدهم، والمفارقة هنا أن بعضهم استفاد كثيراً من السياسيات التي انتهجها. جاءت الاحتجاجات التي هزت تركيا بمفارقة لن تفوت على رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان. فان أعداداً كبيرة من المحتجين منحوه أصواتهم وغالبيتهم انتفعوا وازدهرت مصالحهم من سياساته الاقتصادية، وبعض المثقفين والمعلقين الليبراليين الذين يتهمونه الآن بالدكتاتورية أسهموا بكتاباتهم في فوزه بثلاث ولايات متتالية. وبنظر الليبراليين الأتراك والنخب المدينية، بمن فيهم من شباب وأتراك من الطبقات الوسطى اعتصموا في حديقة غيزي في ميدان تقسيم وسط اسطنبول فان حملة الشرطة التي استخدمت ضدهم الغاز المسيل للدموع وخراطيم الماء واعتقلت متظاهرين ومحامين وصحفيين ومسعفين، تمثل القطيعة النهائية والأشد إيلاماً مع اردوغان وحزب العدالة التنمية. النقطة الحرجة وقال جنكيز جندر الكاتب والصحفي المعروف الذي أيد اردوغان بقوة في جهوده لكبح سطوة المؤسسة العسكرية وضم تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي "إن ما حدث في حديثة غيزي ميدان تقسيم كان النقطة الحرجة". وأضاف "لسنا نحن الذين تغيرنا، بل ما زلنا ديمقراطيين ونريد توسيع الحريات الفردية". وكان كثير من الليبراليين الأتراك غضوا الطرف عن جذور اردوغان الإسلامية خلال صعود نجمه بعكس النخبة العلمانية التقليدية القديمة التي ترتاب بوجود أجندة إسلامية خفية وراء واجهته الديمقراطية. واعتبر الليبراليون أن تفكير اردوغان الإسلامي يندرج في إطار الحرية الشخصية ولا يشكل تهديدًا لتقاليد تركيا العلمانية. وأيدوه على سعيه إلى نيل عضوية الاتحاد الأوروبي المعطلة الآن وبسط السلطة المدنية على الجيش. وانضم إلى الليبراليين الأتراك في دعم اردوغان كثير من الأوروبيين والأميركيين بمن فيهم الرئيس اوباما الذي رحب بإصلاحات اردوغان الديمقراطية. المشاريع الكبرى انقلبت على اردوغان ولكن مراقبين يرون أن اردوغان بدأ يستعدي أنصاره الليبراليين بالتضييق على وسائل الإعلام والتخطيط لتنفيذ مشاريع كبرى في المدن دون العودة إلى سكانها. وعندما حاول جمع من المحتجين إنقاذ حديقة وسط اسطنبول مؤخرًا رد عليهم اردوغان بالغاز المسيل للدموع ومدافع الماء مفجرا أوسع حركة جماهيرية مناوئة للحكومة. وأكد رد فعل اردوغان على الأزمة لكثير من مؤيديه السابقين انه سار في طريق يتعذر معه الاستمرار في تأييده. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن الباحثة الأميركية جيني وايت من جامعة بوسطن التي عاشت في تركيا إبان التسعينات لدراسة صعود الحركات الإسلامية "أن الليبراليين منحوه أصواتهم، لأنه عندما انتُخب عام 2002 حقق ما كان الليبراليون لا يملكون إلا أن يحلموا به". وقالت عضو البرلمان عن حزب العدالة والتنمية نورسونا مامجان التي تعتبر نفسها ليبرالية إنها شاركت في ترتيب لقاءات بين عدد من قادة الاحتجاجات واردوغان بأمل التوصل إلى حل وسط واستعادة تأييد أنصاره السابقين. ولكن هذه الجهود لم تتكلل بالنجاح ورفض غالبية المحتجين المقترح الذي طُرح خلال اللقاءات لإنقاذ الحديقة فرد اردوغان بإصدار أوامر إلى الشرطة أن تنفذ عملية واسعة لإجلاء المعتصمين من الحديقة. وقالت مامجان لصحيفة نيويورك مشيرة إلى صعود اردوغان "أن الليبراليين الحقيقيين دعموه. لم تكن لديهم أحكام مسبقة ضده أو ضد دينه أو أصوله الطبقية. ولم يروا ضيرا في تدينه". محتجون استفادوا كثيراً ومن المفارقات الأخرى في حركة الاحتجاج التركية أن كثيرا ممن يناهضون سياسته بمن فيهم قطاع واسع من أتراك المدن العلمانيين الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى، جنوا منافع كبيرة من النمو الاقتصادي الذي حققته سياسات اردوغان. وقالت مروة الجي (26 عاما) إنها من عائلة علمانية تنتمي إلى الطبقة الوسطى، ولكنها صوتت لحزب اردوغان في الانتخابات الأخيرة رغم تحذيرات أهلها من تنامي سلطة رئيس الوزراء. وأوضحت أن خيارها كان "خيارا برغماتيا بالدرجة الرئيسية". مشيرة إلى إعجابها بطريقة حزب العدالة والتنمية في تحدي سطوة الجيش. وأضافت الجي التي تعمل في صناعة الإعلان "ثم هناك الاقتصاد. فالجميع يريد الاستقرار والازدهار الاقتصادي، وكان هذا من وعود اردوغان خلال حملته الانتخابية". ولكن مروة الجي بدأت تشارك يوميا في تظاهرات ميدان تقسيم. وقالت لصحيفة نيويورك تايمز إنها لا يمكن بعد الآن أن تصوت لاردوغان وخاصة بعد أن وصف المحتجين بالإرهابيين وأطلق عليهم قوات الشرطة. من أنصار اردوغان السابقين ثم انضموا إلى احتجاجات ميدان تقسيم عازف الغيتار ايسن غولر الذي كانت فرقته تعزف في الميدان. وقال غولر انه صوت لصالح اردوغان خلال الانتخابات الأخيرة والانتخابات التي سبقتها "لأني كنتُ اعتقد بأنه سيقودنا إلى الديمقراطية. ولكن السلطة لعبت برأسه، ولم يعد معتدلا بل دكتاتور غاشم يهاجم لحمه ودمه". في هذه الأثناء انتشر عمال في الميدان يزرعون الزهور ويمحون الكتابات التي خطها المحتجون ضد اردوغان. والآن بعد أن أُخلي الميدان لم يعد المراقبون متأكدين من أهمية الاحتجاجات وتأثيرها في السياسة التركية. وقال الكاتب والصحفي جندر "إن الجراح ما زالت حارة والدروس التي يتعين استخلاصها ما زالت في مرحلة مبكرة. ومن الصعب القول كيف سيكون الوضع مختلفا، ولكنه سيكون مختلفا بكل تأكيد".