متابعات : حافظ الشاعر قدّم صندوق النقد الدولي، في يوم واحد، مثالين فاضحين على وجود ساعتين لقياس الزمن، واحدة لدول العالم التي يفترسها الفقر والاستبداد والفساد، وأخرى لأمريكا وحدها التي تنحني لاجلها المعادلات الاقتصادية «العلمية» التي سنّها هذا الصندوق وأصر على تطبيقها بدون أي هوادة أو رحمة لعشرات السنين على الدول الأخرى ولصالح أمريكا وحلفائها وليس لأحد آخر. ففي سابقة تاريخية، انتابت مسؤولي صندوق النقد موجة تفكير عاطفية مفاجئة بالفقراء الأمريكيين الذين حرمتهم القوانين التي فرضتها رأسمالية بلادهم وظائفهم في قطاعات الصلب ومعامل السيارات، وفي تصريح لناطقه الرسمي جيري رايس اعتبر الصندوق أن انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة على برنامجه الداعي إلى الحمائية يثبت الحاجة إلى مزيد من الاهتمام بعواقب العولمة والتجارة الدولية. وحسب كلمات المتحدث فقد صار واجباً الآن «ايلاء مزيد من الاهتمام لمعالجة عواقب التجارة الدولية لحماية مصالح الذين يشعرون انهم مهملون» مضيفا أن العولمة يفترض أن تفيد «الجميع» أكثر مما هو حاصل حاليا. الواضح أن هذا التصريح الصحيح هدفه إعطاء مصداقية للشعارات التي طرحها ترامب أكثر من كونه تعاطفاً مع من أضرت العولمة بمصالحهم، ففي اليوم التالي على تصريح رايس كان الصندوق الدولي يتدارس دفع شريحة أولى من قرض للحكومة المصرية بعد التأكد من تنفيذها شروطه المعروفة وبينها رفع الدعم عن السلع الرئيسية الذي سيتأذى منه ملايين المصريين. الفضيحة بين هذين المثالين تكمن طبعاً في معرفة من يسيّر «الثالوث المقدس» المؤلف من صندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وكذلك يسيّر الاقتصاد العالمي، وهذا كفيل وحده بتفنيد تصريحات الصندوق وترامب نفسه. تأسس صندوق النقد والبنك الدولي عام 1944 خلال مؤتمر لقوات التحالف الدولية المنتصرة في (وبشكل رئيسي أمريكا وبريطانيا) التي اسست شكل حكم اقتصاد العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد استغل الصندوق والبنك الدوليان أزمة البلدان الفقيرة عام 1982 لتطبيق سياسة حادة عبر (برامج التعديل البنيوي) بحيث صارا يتحكمان بكل جوانب الحياة الاقتصادية في تلك البلدان. تنتج الدول الغنية 80٪ من السلع في العالم، وتسيطر على 70٪ من التجارة الدولية وهي الممول ل70 إلى 90٪ من الاستثمارات العالمية، وهذا يعني، باختصار، أن هذه الدول هي التي تفرض على البلدان الأضعف منها فتح أسواقها لمنتجاتها، وهي التي تمنعها من اتخاذ اجراءات تحمي سلعها ومنتجاتها والسلع الأساسية التي يستهلكها مواطنوها. وبسبب هذا الواقع فإن منظمة التجارة العالمية تفرض عمليا قوانين وسياسات للتجارة العالمية تدعم العولمة وفتح الأسواق لصالح المنتجات والسلع التي تكون فيها تلك الدول الغنية مستفيدة وليس العكس (النفط والمطاط والبن مثلا). جيش الأيديولوجيين الرديف للمؤسسات المذكورة ينافح عن هذه السياسات متجاهلاً حقائق صلبة منها على سبيل المثال أن كوريا الجنوبية بين الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي اتبعت سياسة دعم وتمويل من الدولة للصناعات الثقيلة، وحماية قانونية لمنتجاتها كما أنها كانت تسيطر بشكل كامل على حركة النقد الأجنبي (كان التلاعب بسعر النقد الأجنبي يعاقب بالموت) وكان صندوقها للعملة الصعبة يستخدم بالتحديد في استيراد الآلات المهمة والمنتجات الصناعية. الدرس الذي قدّمته أيضا دول مثل اليابان والصين أن النجاح في التصدير لا يحتاج إلى تجارة حرة، وأن القوانين الحمائية ليس هدفها حماية الصناعات المحلية من المنافسة العالمية للأبد بل اعطاءها وقتا لاستيعاب التقنيات الجديدة وتأسيس قدراتها التنظيمية لتصبح قادرة على المنافسة عالميا. وعلى عكس الأسطورة التي يعلفنا بها أيديولوجيو الصندوق والبنك الدوليين (إضافة إلى اقتصاديي الحكومات العربية المستبدة) فإن الدول التي نشأت فيها مقولتا التجارة الحرة والسوق المفتوحة، وعلى رأسها أمريكا (التي يلوم رئيسها المستجد ومواطنون فيها التجارة الحرة!) أصبحت دولا غنية بسبب استخدامها صيغاً تخالف نظريات الليبرالية الجديدة، ولأنها، لمرات عديدة في تاريخها، فرضت سياسات وقوانين حمائية ودعم لصناعاتها، وهو بالضبط ما يسعى ترامب حالياً لفعله. السؤال الذي يساوي ثقله ذهبا هو: لماذا لا تنصح الدول الغنية تلك الفقيرة باتباع السياسات التي أوصلتها إلى هذا الغنى والعظمة وتصرّ على اختراع تاريخ وهمي حول أسس نجاح الدول؟ تعاطف صندوق النقد الدولي مع استغلال ترامب الملياردير لمشاكل الأمريكيين واشتراكه مع حكومة القاهرة في افتراس المصريين مسخرة ما بعدها مسخرة.