كان السياسي الأبرز في تاريخ إسبرطة اليونانية يتبع نظاما عسكريا فاشيا ولا يثق بمبادئ الديمقراطية، وحين سأله سائل عن سر صرامة الدستور الإسبرطي قال متهكما: "فلتجرب أن تكون ديمقراطيا في بيتك لتعرف الإجابة." ولأنه كان رب أسرة، احتفظ الرجل بلعابه وأطبق فكيه على أنة مكتومة وتكوم بعيدا عن أنظار مضيفه. ولأننا جربنا مظاهرات أبنائنا الطفولية ووقوفهم صفا خلف حاجاتهم الصغيرة، واستمعنا نافدي الصبر إلى تأففاتهم ودبيب أقدامهم المتمردة، ونظرنا حانقين إلى أصابعهم الصغيرة تلوح في وجوهنا، نلتمس بعض العذر لجليس لم يجد في صدره ما يكفي من حجة لقمع ديكتاتورية نشبت أظفارها في كتف بلاد قادت العالم المتحضر نحو مستقبل آخر بكتف أخرى. ففوق الكتف الأخرى وقف أقطاب ثلاثة يؤسسون لفكر جديد أكثر استنارة ووعيا، فعرفت شوارع أثينا بصمات أقدام أخرى تشق طريقا آخر لنصف بلاد مختلف. وتقدم عمالقة الفلسفة سقراط وأرسطو وأفلاطون مسيرة نهضة كونية انتقلت بها البشرية من ضيق البداوة إلى رحابة المدنية، وخطت أولى خطواتها نحو الحريات. وذات حسرة، انتصرت إسبرطة بصرامتها على أثينا الديمقراطية جدا، وتحولت شوارع المدن المحتلة إلى ثكنات عسكرية يصول فيها الجنود فيمحون بكعوب بنادقهم آثار ثلاثة من عظماء الفكر المتحضر، ويخطون بأحذيتهم المتسخة طريقا آخر لبلاد رفضت أن تخلع رداءها أمام سلطانهم الجائر. احتملت أثينا صيحاتهم المدوية في صحن الفجر، لكنها كانت تنظر شذرا نحو فجر آخر يحملها والعالم نحو إنسانية أخرى جديرة بالبقاء. وتقدم التاريخ العجوز نحو الميادين الأوروبية المظلمة فأنارها بمصابيح من صنع أثينا، بينما ظلت عاصمة الفلسفة خاوية على بنادقها حتى حين. لكن غزو البزات العسكرية لم يدم طويلا، فسرعان ما نفضت أثينا عن رأسها وحل الانحطاط القيمي، لتعود بدستور جديد يحفظ للصغار صرخاتهم ويبتسم في وجه رعونتهم وقبضاتهم المتوترة. هكذا انتفضت أثينا لتخط دستورا كونيا رائدا يحترم الإنسان ويعلي من شأن الديمقراطية وتوارت خلف ليكورجس مملكة القوة. قد تضيق الطرق بصبيانية المتزاحمين فوق أرصفتها، وتغص الشوارع بصيحات الاستهجان وألوان الأعلام وهتافات الثائرين، ويتحول ليل القاطنين حول أحزمة الميادين إلى جحيم لا يحتمل، وترحل السكينة عن خاصرات المدن وتتوقف الحافلات والقطارات أمام أقدام نسيت بوصلتها وتقدمت في ثبات نحو شلل اقتصادي مرعب، لكن مقدمات التمرد لا تبرر أبدا رفع سيوف التسلط في وجوه الحالمين. يوما ما خرجت أوروبا على قطاراتها وأشعلت إطارات الثورة في فواصل التاريخ فغيرت مسارات الأحداث، وتحول العالم من كتف إسبرطي متشنج ليستقر على كتف أثيني أكثر لينا ودفئا. واليوم - وحتى اليوم - يأبى التاريخ أن يغير سننه وإن تغيرت ملامح ساكنيه. يأبى التاريخ أن يرفع كعوب البنادق فوق الهامات الكبيرة وأن يدير وجهه نحو ماض أثبت فشله حتى النخاع. ستحتمل البلاد نزق صبيانها، وشقاوة غلمانها وتسير مثقلة بحملها نحو تاريخ آخر لا مكان فيه لدستور ليكورجس. ستسير مصر فوق إطارات السيارات المحترقة وأسلاك الفتن الشائكة بأقدامها العارية نحو طريق الخلاص لأنها ببساطة بلاد عرفت طريقها نحو الحرية. ولسوف تتساقط المؤامرات والفتن من فوق ظهرها كما تتساقط أمطار المؤامرات الحمضية فوق الأوتاد. يوما ما سيعلن الصغار رجولتهم، ويخرجون من نفق أنانيتهم ليتحول دستورنا الذي لم ينضج بعد إلى دستور كوني يقود العالم الساقط في شباك ليكورجس الأمريكي نحو الحريات. أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.