إلى بلاد شربت كأس الفساد حتى الثمالة، عاد ليكورجس ليعلن من مسقط ألمه ثورة مجيدة على ظلم الحكومة وفساد الرعية. فقد تعلم الراحل عن بلاطه الملكي طواعية من أسفاره في كريت وأيونيا ومصر أن الشعوب والحكام يقتسمان إثم الفساد ووزر التخلف والرجعية شبرا بشبر وذراعا بذراع. وفي أجورا أكبر ميادين إسبرطة وقف الرجل بين ثلاثين حارسا من ذوي البأس والولاء ليعلن في الناس قيام أول ثورة ملكية ضد الفساد. يومها التفت حوله الشوارب الضخمة والسواعد المفتولة لتشكل حول حفيد هرقل دائرة كبيرة من الرؤوس المطرقة وهو يرسم بمبضع جراح طريقا يبسا للخروج من عباب أنانيتهم المفرطة ورعونتهم الفجة. وبمشرط جُرَيْح، قسم الوصي على المُلك أرض البلاد بين ساكنيها بالقسط، لينال المَلِك من تراب الوطن ما ينال الأجير والضعيف وذو الحاجة. ولم ينس الحاكم الرشيد ساكني البلاد من غير أهلها، فوزع عليهم الحقول والسهول والبيوت والمصانع على قدر ولائهم وعطائهم للبلاد. ولم يسمح ليكورجس لأحد من الرعية بتناول الطعام في بيته، فأقام الولائم اليومية في الأسواق والميادين وقدم فيها ما يقيم للناس إودهم ويحفظ أرواحهم. وعلى تلك الولائم، اجتمعت كل الأفواه، فلم يفرق التاريخ يومها بين فم ملك أو فم حارس مزرعة. كانت الثغور المفغورة فجوات في بناء ضخم، وكان الملك يدرك أن الفجوات التي لا تُسَد تؤوي الثعابين والأفاعي والحيات. أما عن الإصلاحات السياسية، فقد ارتضى الملك لنفسه أن يكون واحدا من ثلاثين رجلا يديرون شئون البلاد العسكرية، أما الشئون المدنية، فقد أوكلها لخمسة من القضاة الذين لم يطعن في عدالتهم أحد. هكذا قسم ليكورجس السلطة التي لم يكن يطمع فيها يوما بين الأحزاب، ولم يختص نفسه أو أهله بما يمكن أن يكون مدخلا للطعن في نزاهته يوما. وفي عهد ليكورجس، تحولت البلاد إلى ثكنة عسكرية ضخمة لا حرفة لأهلها إلا صناعة أدوات الحرب ولا عمل لهم إلا القتال والنزال. أما العبيد فكانوا يزرعون الأرض ويسقون الحرث ويحترفون صناعة الأدوات البدائية التي تحتاجها حياتهم البسيطة. أما على الجانب الاقتصادي، فقد قرر حكيم اسبرطة ومليكها أن تحقق البلاد اكتفاء ذاتيا قسريا، فحرم التجارة ومنع تداول الذهب والفضة وصك نقودا حديدية لا تصلح للتداول إلا داخل المملكة، ومنع الملكية الخاصة فصار ملهما للاشتراكيين والشيوعيين على مر الأزمان. وبعد فترة من التدريب العنيف والشظف المتعمد لسواعد مواطنيها، تمكنت إسبرطة من القفز فوق محيطها، فصالت هنا وجالت هناك، وغزت البلاد شرقا وغربا، وامتد سلطانها فوق كل ذي سلطان من حكام الممالك المجاورة. لكن نار الحقد التي أكلت أفئدة أمراء البلاد الذين لانت جلودهم وقست قلوبهم، امتدت من الصدور فطوحت بذؤابة رمح فقأت عين ملهم الثورة وتركته كيوبيدا لا يرى بعينه الواحدة إلا وجه الوطن. وليبرهن الرجل أنه ليس مدعيا كأغلب حكام العصر الحديث الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، قرر الرجل مغادرة مملكة إسبرطة إلى الأبد بعد أن أخذ ميثاقا على أبنائها في حشد هو الأكبر من نوعه في تاريخ البلاد أن يظلوا أوفياء لقوانينه وتشريعاته. وفي دلفي منفاه الاختياري، قرر الرجل أن يمتنع عن الطعام حتى الموت ليكتب نهاية قصة رائعة لرجل أحب بلاده قدر ما يستطيع وقدم لأهلها فوق ما يشتهون. لا أريد هنا قطعا أن أسوق لرجل لن يقدمه مديحي ولن يؤخره ذمي. فقط أردت أن أعرج على صفحة من تاريخ آخر، صدقت فيه النوايا وخلصت فيه النيات ووضحت فيه الرؤى وسمت فيه الغايات. أردت فقط أن أقول أن العزم والحزم والنوايا الصادقة استطاعت أن تحول إسبرطة من دولة همجية لا قانون يحكمها ولا وازع من دين أو ضمير يوجه رعيتها إلى دولة عرفت طريقها إلى التاريخ القديم وإلى أروقة الجامعات وطاولات البحث في عصرنا الحديث. أردت أن أقول أن الزهد في الملك والرغبة الصادقة في الإصلاح والعدالة المطلقة بين سكان البلاد هي الضمانات الأكيدة للخروج بأي بلاد من كل ضنك وعسرة. وأردت أن أقول أن الملهمين من القادة يصنعون التاريخ ويفتحون في جدران اليأس نوافذ أمل لشعوب أقعدها الفساد عن القيام بأي محاولة للإصلاح، وأن آلاف المهمشين في بقاع الأرض ينتظرون بشغف مسيحهم الذي يخلصهم من ظلم الطغاة وجبروت المفسدين، وأنهم مستعدون لتحمل شظف العيش شريطة أن تقسم البلاد بين ساكنيها بالعدل وأن يتناول الجميع وجبات موحدة وسط أسواق لا تنحاز لأحد. أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.