بقلم د. رفيق حاج هنالك العديد من ردود الفعل التي يقوم بها الأناس الذين يقعون في أزمة , فمنهم من يتقوقع في البيت ويلزم الاعتزال ومنهم من يتديّن ومنهم من يحاول المضي قدما. هنالك العديد من الطرق للتعامل مع الازمة كالبحث عن مسار جديد, او التجاهل والتقزيم والاقصاء. في الازمة تختبئ بذور الحل. اعذروني على الاستعارة المؤقتة لكلمة "تأبط" المشتقة من المصطلح العربي المعروف "تأبط شرّاً" والتي عادة يوصف بها من ضمر الشر ونوى العداء. وفي المعاجم اللغوية " تأبط الشيء" أي وضعه تحت ابطه لكن المعنى الاوسع والاشمل له هو: حوّله الى شغله الشاغل وجعله دينه ودنياه. و"تأبط أزمة" هو مصطلح من اجتهادي الخاص ويعني ان نجعل الأزمة التي ألمّت بنا محور حياتنا وموضوع حديثنا ولون ملابسنا وكحل اعيننا. الأزمة هي حالة انفعالية تجعل الفرد أو الجماعة يخضعان لعوامل تأثير ضاغطة، عادة ما تكون سبباً في بروز ردود فعل غير متزنة ولا مدروسة، حيث تتشابك عوامل تأثير متعددة في صياغة الأزمة وتحديد أبعادها. ما قد يجهله البعض منا ان ضخامة الازمة التي اصابتنا تتعلق اولاَ بنا. فنحن نختار رؤيتها كبيرة او صغيرة, مستديمة او عابره, قاتلة ام طفيفه. هنالك العديد من ردود الفعل التي يقوم بها الأناس الذين يقعون في أزمة وهي تختلف من شخص الى شخص ومن مجتمع الى مجتمع ومن نوعية الازمة وحدتها واهميتها لكينونة وصيرورة صاحبها. منهم من يقم بالتقوقع بالبيت والابتعاد عن الناس والمجتمع والامتناع عن الظهور خشية من مصادفة أعين الناس اللائمة او المُدينه او المشفقة عليه, وكما تعرفون ان غالبية المنقطعين عن مجتمعاتهم وذويهم يصابون بالكآبة , إضافة للشعور بالاحباط وفقدان الحيلة من الأزمة نفسها. بعبارة أخرى الانعزال والانقطاع يزيدان ازمتهم تاججا ووجعا, وقد تجد قسما منهم قد هزل جسمه وشحب وجهه واصبح شبحا بصورة انسان. هنالك بعض المأزومين من يقومون بالهرب من البيت او البلدة او الدولة ويبحثون عن بدايات جديده, ومنهم من يقومون بإيذاء انفسهم او إيذاء غيرهم او حتى الانتحار. ما لا شك به ان الازمة تشكّل عبئا ثقيلا على كاهل صاحبها الذي سيبحث عن طرق متنوعة للتخلص منها. طبعا كل ردود الفعل التي ذكرت آنفا واردة بالحسبان ولكنها ليست موضوع حديثي. ان التقوقع في البيت او الهرب من البلاد او القيام بالانتحار هي امور في غاية التطرف والخطورة والتي قد تسببها مصائب كبيرة الشأن ولا استطيع هنا ان اسدي النصيحة لأحد , فمن وصل الى هذه الدرجات من الاحباط لا يمكن ردعه. ان الموضوع الذي اريد طرقه هو سلوكيات الاشخاص الذين يستمرون في حياتهم وعملهم وتربيتهم لأولادهم بعد الأزمة التي انتابتهم حيث نشاهدهم واجمين, حانقين, مكفهري الوجوه. متشائمين, فاقدي الثقة بانفسهم وبالناس, ساخطين على من كان السبب وراء تعاستهم وانزالهم عن عرشهم. اود ان اهمس في اذان من قرروا مواصلة المسيرة, رغم الازمة التي انتابتهم وجعلت حياتهم جحيما لا يطاق , من فرط الشعور بالسخط او الذنب او الرغبة بالانتقام او الخجل مما المّ بهم , أن هنالك الكثير من الطرق المؤدية الى تخفيف ألامهم ومعاناتهم, واهمها البحث عن مسار جديد للعمل والانتاج والعطاء, فالمحامي الذي سُحبت رخصة عمله إثر قيامه بتزوير مستندات رسمية او الطبيب الذي مُنع من مزاولة عمله بعد قيامه بعمل جنائي يستطيعان البحث عن مسار عمل جديد معتمدان على ثقافتهما العالية وقدراتهما الشخصية, والطالب الجامعي الذي فشل بالحصول على الشهادة المرموقة بعد تسع سنين في الغربة يستطيع ان يبدأ مسارا تعليميا جديدا يلائم قدراته وكفاءاته واهواءه. هنالك طرق أخرى للتخفيف من وطأة معاناة المأزومين كتجاهل الازمة او تقزيم حجمها, فقد يقول المأزوم لنفسه صحيح انني خسرت كل اموالي بالبورصة لكن لدي أملاك أخرى تعوضني عن ذلك. صحيح ان رِجلي اصيبت بعاهة مستديمة إثر حادث طرق لكني أملك ذراعين قويتين وعقلا نيرا. صحيح ان زوجتي تركت البيت ولم تَعُد ولكنها "ريحتني منها ومن بلاويها". هنالك طريقة اخرى للتعامل مع الازمة وهي المقارنة مع ازمات أخرى اشدّ وقعا من ازمتنا والتي اصابت الآخرين. هنالك شعور من الراحة الوهمية الذي يغمرنا عندما نجد ان أخرين يعانون من أزمة اشد هولاً من أزمتنا. أنا خسرت نصف اموالي اما فلان فقد اضاع كل ثروته وبات فقيرا مدقعا. أنا فصلت من مكان عملي لكني استطيع ان اجد عملا بديلا اما فلان من سيقوم بتشغيله في هذا السن؟ وهنا لا بد من ذكر نهفة طريفة في هذا الصدد- حينماعثر احد الازواج على صورته المؤطّرة ببرواز في "جزدان" زوجته, حيث اصيب بالذهول من ذلك فهو يدرك تماما انها لا تطيقه بالمرة وانها اعتادت ان تشخط به ليل نهار, وعندما سألها عن سبب احتفاظها لصورته في "جزدانها" فأجابت ان النظر الى صورته تساعدها كثيرا بالتخفيف عن معاناتها فعندما تقع في ورطة او مصيبة تنظر الى صورة زوجها وتهمس لنفسها "كل المصائب تهون قبال هذه المصيبة.." طريقة اخرى للتعامل مع الازمة هي اقصاؤها وازاحتها من ساحتنا. ان من حُكم عليه بالسجن بتهمة حيازة المخدرات هو والدي او اخي او ابن عمي وليس أنا. لماذا اتبنى أزمته؟ فلي ما يكفيني. ان من سقط في اختبار القبول لنقابة الاطباء للمرة العاشرة هو ابني وليس أنا. ان الذي وصل الى جيل الاربعين دون ان يجد شريكة حياة أو طلّق زوجته او ضُبط في حالة خيانه هم آخرون وليس أنا. يُقال أن الازمة توقف المعاناة وتحمل في ثناياها بذور الحل, والمثل العربي يقول في هذا "اذا ما خربت ما بتعمر..". قد تكون الازمة هي علامة لنهاية المعاناه وبداية الفرج ومن يرى بها كذلك يستطيع ان يتخطاها ومن يرى عكس ذلك ويتأبطها فهو يدعها تدوسه وتطحنه تحت عجلاتها.