رجع "مخ" بثقته المعهودة ووجهه الطفولي لسيادة العميد بعد غياب لا يتعدى ثلاث ساعات... وأعطاه التوكيل بمنتهى الثقة، سيادة العميد فتح التوكيل ولم يجد إسم الموكَل بالتعامل رغم أن التوكيل سليم ومختوم وموثق بالشهر العقاري، فسأله التوكيل ده بإسم مين؟؟؟ وتدارك صديقي الكارثة فبالفعل تذكر أنه أملى الموظف أسماء الورثة جميعهم ماعدا إسمه!!! ولم يتردد كالعادة ونطق بكل ثبات - "يا بيه ده لحامله يا بيه..." نظر إيه سيادة العميد وتعجب من ثبات "مخ" ولم يتصور أن يكون بهذه الحماقة فقرر تمزيق التوكيل ومخ يكاد يبكي "ليه بس كدة يابيه... يا بيه إحنا عبط يا بيه" فرد سيادة العميد :- "إنت عارف بالتوكيل ده مش بس أسجنك ده أنا أقفل الشهر العقاري كله" وأدرك "مخ" أنه مازال في الآمان فاستكمل دور العبيط وسأله "ليه حضرتك هم ضحكوا عليا ولا إيه؟" لم يعرف سيادة العميد أفضل بدائله، فكر لو يعتقل الغلام وعنده من الأسباب ما يكفي، لكن حنينه الدفين لأيام الثانوية العامة ورغبته في أن يصبح مهندسا جعلته يتريث قليلا رغم ثورته، فقرر لعب دور الأب للنهاية ووضع يده على كتف مخ وجره معه لغرفته وأجلسه، أشعل سيجارة ونفث غضبه في دخانها، وقال بعد أن ظن أنه هدأ قليلا...:- "بص يا باش مهندس طبعا أنا هاحاول أنسى موضوع التوكيل ده خالص، وهاعتبر إنك لسة ما رجعتش، لكن قسما عظما لو ما جبت التوكيل لأحبسك أنت وصاحبك والدبان الأزرق مش هايعرفلكم طريق جرة...." بدا على مخ ملامح الفزع لكنه كان في قمة سعادته فالموضوع "عدى" على خير وإعتذر بأدب وخرج ناظرا في ساعته ولم يكن أمامه سوى الفترة الثانية للشهر العقاري والتي عادة تكون للتسليم... وبدأ يرسم السيناروي الجديد فذهب للموظف "إياه" وعلى وجهه كل ملامح الغضب الإنساني، ممسكا بيده بقايا التوكيل الممزق، وبدأ عرض مشكلة أمن قومي على الأستاذ "سيد" موظف الشهر المتعاون وكل هالات الرعب تهيم على وجهه، فلم يفهم شيئا مما قاله "مخ" لكنه أدرك أن هناك مشكلة وأن عليه تصحيح المشكلة، كان مخ متأكدا من تصحيحها لكنه كان يطمع في أن يتحمل الأستاذ سيد كافة التكاليف، وبالفعل قام الأستاذ سيد بالمطلوب وزيادة وقاما سويا بمراجعة التوكيل أكثر من مرة قبل توثيقة وتصويره بالميكروفيلم وشكر مخ الأستاذ سيد على حسن تعاونه، وخرج وكانت الساعة قاربت السادسة مساءاً، وتقريبا عرف أن صديقه الطبيب كانت فرصته ستكون أفضل لو كان سافر بالقطار... أدرك أنه لن يستطيع الذهاب للمديرية مرة أخرى وعلى الإنتظار حتى الصباح ولم يدري أين عليه الذهاب وكيف سيقضي ليلته، وترجل على الكورنيش حتى عبر الطريق للجامعة، وإبتسم فقد ظهرت له خطة جديدة... أخرج ما تبقى معه من نقود... إبتسم بحسرة... وأخذ يتابع المقاهي في طريقه حتى وجد بعض المثقفين من أصحاب البذات القديمة نسبيا وأحس أنهم من الشعراء أو النقاد أو ما شابه، ولمع في عينيه "خابور الحشيش" وجلس مجاورا لهم مطلقا أذنيه على مصراعيهما ليسمع أي كلمة يعرف بها إتجاه الحوار، ولم يتطلب الأمر كثيرا فهم من المثقفين وبالتالي في الأغلب يساريين... قومين.... وفكريا هم ضد الإخوان وفي نفس الوقت مادمنا في الأقاليم فلا إختلاف على تدينهم وتذكر محمود عبد العزيز في خلطبيطة عندما أتهم أنه من الإخوان الشيوعيين... ولم يكن بالأمر الصعب أن يقطع الحوار بملاحظة تسترعي إنتباههم لتنتهي ملاحظاته ضيفا عليهم وتستمر المناقشات لفترة طويلة وبالطبع كغريب فقد حظي بكل واجابات الضيافة من مشاريب وسندوتشات على المقهى وحتى تدخين الحشيش بسيارة أحد أصدقائه الإخوان الشيوعيين... وبعد أن عمر الطاسة وشكرهم ووعدهم بتكرار اللقاء وبدعوتهم جميعا لسنورس بالفيوم لرد "الواجب" تذكر صديقه الطبيب المحتجز أثناء ترجله بجوار المدينة الجامعية وكالعادة طرأت له فكرة نمسية من أفكاره المعتادة، فدخل لبوابة المدينة الجامعية وطلب من الحراسة توصيله بأي طالب من كلية الطب بحجة أن أخاه لم يتصل من فترة وهو قادم من "البلد" ليطمئن عليه، لم يستغرق الأمر وقتا قابل أحد الطلاب وعرف عنوان بيت دكتور المادة التي لم يحضر إمتحانها صديقه وصافح الجميع بطفولته ومضى لبيت الدكتور، كان يردد طول الطريق "إخوان... شيوعيين... إخوان... شيوعيين... يا حلو ياللي في رابع دور... حرام عليك إرحم حبة... ساعة ماشوفك عقلي يدور... تدارى مني وتتخبى... " ضرب الجرس راسما كل علامات البؤس على وجهه وإنتظر حتى فتح الباب رجل يبدوا أنه الدكتور المقصود وبدت ذقنه التي تتخطى صدره مفتاح الفرج... بدأ مخ بالإعتذار للدكتور وإخباره أن المباحث قد إعتقلت رفيقه الطبيب قبل الوصول للمنصورة وذلك لأنه يربي ذقنه وقاموا بسبه وضربه لأنه من الإخوان... وأقسم الضابط أنه سيحلق له ذقنه، ولا يعرف ما تعنيه تلك الذقن لصديقي... وختم "إحنا إتبهدلنا قوي يا دكتور وكل ده علشان مربي ذقنه... " وكاد يبكي فربت على كتفه الدكتور وقاله ما تقلقش أنا هاخلي حد من المحامين يطلعه وأول ما يخرج خليه يجيلي هاعمله إمتحان إستثنائي يا إبني... أمسك مخ بيد الدكتور مقبلا إياها "أبوس أيدك يا دكتور بلاش محامي يخرجه كدة هاتثبت عليه إنه من الإخوان وده وحيد أمه يعني ما يجوزلوش الجهاد...." وإنخرط في البكاء "هو خالي بيشتغل في المديرية عندنا وكلمته وقالي هايخرج بكرة إن شاء الله لو مالقوش عليه حاجة... لو ما خرجش هاجي لحضرتك يا سيدنا" إقتنع الدكتور وإنصرف مخ تمدد على دكة على الكورنيش مواجها النيل ويديه خلف رأسه مبتسما بحجم إنجازاته حتى طلع الصباح... راجع الأوراق، كله تمام... إلى مديرية الأمن يا بطل قابل العميد وعلى وجهه علامات الأسى مستعطفا إياه... راجع التوكيل... تاني من الشهر العقاري في المنصورة؟؟؟ أنا مش قولتلك تجيبه من البلد؟ إبتسم مخ بخوف قائلا " يا بيه ما هي الحاجة وإخواتي جم من إمبارح علشان التوكيل و..." قاطعه مبتسما "طب سلملي عل الحاجة" وأمر بالإفراج عن صديقه والسيارة وقبل إنصراف مخ وضع يديه على كتفه قائلا "إبقى شوفلك حاجة غير البطاقة غطي بيها الكوباية يا باشمهندس، يعني عيب قوي كل الإجرام ده وماعندكش كومبيوتر هبو ... أه ماتنساش سلامي للحاجة والأستاذ سيد إبن ... اللي هاحبسه وهاحبسك لو عرفت أنك هوبت ناحية وجه بحري كله... قال توكيل لحامله قال" يوميات حمار من مصر