ليس خافيًا على أحد أن المرأة من جميع الأعمار والفئات الاجتماعية، كانت في الصفوف الأولي لثورة 25 يناير، وكانت الجهود المتنوعة الأشكال التي قدمتها المرأة، هي أحد العناصر الأساسية في استمرارها ثم نجاحها، هذا فضلاً عن أنها قدمت شهيدات جنباً إلي جنب شهداء الثورة، لكن المفارقة المدهشة والداعية إلي التأمل والدراسة والأسى، هي صمت الثوار المطبق علي هذه الهجمة الرجعية الشرسة علي حقوق النساء القانونية والسياسية، بدعاوي مخادعة وزائفة، ترفع مرة خطاباً دينياً موغلاً في الجهل والتخلف، وتزعم مرة ثانية أن القوانين التي صدرت علي امتداد العقدين الأخيرين لحماية المرأة والطفل، هي مجرد قوانين «سوزان مبارك» لتمنح «الهانم» بذلك فضلاً ليس لها وحدها، بل هو ثمرة لنضال طويل للحركة النسائية المصرية، امتد لنحو ستين عاماً. انغمس كثير من الثوار في نقد الواقع الحالي، بوجهة نظر لا تري فرقًا بين ما كان وما يحدث الآن، وهم لا يلتفتون إلي مكيدة يجري تدبيرها في الظلام لضرب إسفين بين المجلس العسكري والسلطة التنفيذية من جهة، وبين الاثنين والثوار من جهة أخري، وهو مسعي لو قدر له النجاح - لا سمح الله - سوف يخسر الوطن بمجمله، ويكسب أعداء الثورة، إذ المؤكد أن الصراع بين الثورة وأعدائها لم يحسم، ولم تكتب فصوله النهائية بعد، والمؤكد أيضاً، والذي لا يلتفت إليه الثوار أدني التفات، أن المعادين لحرية المرأة وحقوقها، يقبعون في قلب هؤلاء الأعداء. وعندما تسيطر علي المشهد السياسي «قوي ثورية» معادية لحقوق النساء، فإن الثورة سوف تظل مقصورة عن بلوغ أهدافها، وإلى الذين لا يريدون أن يروا فرقًا بين ما كان، وما يجري الآن أن يتأملوا في أن مؤسسات الدولة في معظمها قد انهارت بعد الثورة، وأنه في أقل من سبعة أشهر يجري إعادة بناء تلك المؤسسات، بالإضافة إلي حل مجلسي الشعب والشوري، وحل الوحدات المحلية، وحل الحزب الوطني الذي كان حاكماً، وتقديم كل رموز النظام السابق، بمن فيهم رأس الدولة إلي المحاكمة، وإصدار أحكام رادعة علي عدد منهم، وكلها وغيرها فروق واضحة لكل ذي عينين! في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أخذت بنظام كوتة المرأة، أصدر الداعية الإسلامي الشيخ يوسف البدري فتوي بأن مشاركة المرأة كمرشحة، وناخبة حرام ومن يوليها آثم، وذلك في رأيه لأن تلك المشاركة تبعد المرأة عن وظيفتها التي خلقها الله لها وتفسد المجتمع. وفي يوم المرأة العالمي في الثامن من مارس الماضي، خرج زملاؤه من السلفيين بالعصي والهراوات والسلاح الأبيض، إلي المظاهرة التي دعت إليها الحركات النسائية المصرية احتفاء بهذا اليوم، الذي يأتي للمرة الأولي بعد الثورة، واعتدوا علي المتظاهرات والمتظاهرين المتضامنين معهن، وأطلقوا عليهن سيلاً من الشتائم الغليظة والجارحة والخارجة عن الأعراف والآداب العامة، بما جعل ميدان التحرير في ذلك اليوم أشبه بساحة قتال، وكان رد الثوار علي تلك الواقعة محدوداً، في شكل إدانات عابرة. وعلي خارطة المرشحين للرئاسة، يتصدر المشهد اثنان من التيار الديني هما الشيخ «خالد أبو إسماعيل» والدكتور «سليم العوا» المعروفان بموقفيهما المعادي لمعظم الحريات العامة، ولحقوق المواطنة، وميلهما للدور المحدود الذي يضعانه للمرأة، هذا بالإضافة إلي أن الثاني منهما يعمل مستشاراً لنظام حكم عمر البشير الاستبدادي الذي جثم علي صدر السودانيين أكثر من عشرين عاماً، وأورث شعبه الفقر والمجاعة، وبدد ثروات وطنه وفرط في وحدة أراضيه، وفي غمرة المطالبات الجزئية والكلية التي يرفعها الثوار، لم يبد أحد منهم أدني اهتمام للتصدي لهذا النوع من الخطاب الذي ينتشر عبر الأثير والفضائيات والصحف، وفي الزوايا والمساجد، يبشر بالدولة الدينية، ويدعو لدولة الخلافة الإسلامية، يجر مصر قروناً إلي الوراء، ويعصف بكل الحريات وفي القلب منها حرية المرأة، بزعم الدعوة لتطبيق شرع الله! وفي الآونة الأخيرة امتلأت الساحة السياسية، بما يزيد علي خمسين حزباً، أغلبها مستنسخ إما من الحزب الوطني المنحل، أو من جماعة الإخوان المسلمين، أو من الجماعات السلفية، وهي أحزاب تشترك فيما بينها في معاداة حرية المرأة، والتشكيك في أهليتها للمساواة والمشاركة السياسية، بعد نحو 55 عاماً من نجاحها في الحصول علي الحق في الترشح والانتخاب الذي حصلت عليه بتضحيات جسيمة! لقد آن الأوان لكي تدرك القوي والتيارات السياسية والأحزاب التي شاركت بنجاح في جمعة «تصحيح المسار» أنه من الخطر البين الذي لا لبس فيه علي مدنية الدولة، أن تترك حقوق النساء نهبًا للاعتداء شبه اليومي عليها من قبل قوي الإسلام السياسي، التي تروج لفهمها الخاص للدين والشريعة للعصف بتلك الحقوق، التي صمت النساء من تعقيدات إجراءات التقاضي في قضايا الأسرة، وحصنت الأطفال ضد الاعتداءات البدنية، والضياع المؤكد الناجم عن مشاكل الأحوال الشخصية. إن للثوار أن يدركوا أنه من الخطر علي مدنية الدولة أن تظل الجهات الأكثر نشاطاً في مجال تجنيد المرأة، وتنظيمها في العمل الانتخابي، وفي العمل الدعوي هي تيار الإسلام السياسي، وجماعة الإخوان المسلمين، التي تدرك أن اجتذاب المرأة إلي رؤاهم، هو اجتذاب للأسرة إليها، وهي المدخل اليسير نحو المجتمع المسلم ثم الدولة الدينية التي يطمحون في تأسيسها، ولعل ذلك هو أبرز خلل أنتجه النظام السابق حين اتجه لإبعاد الأحزاب المدنية قسرياً عن مجال التأثير وسط الطالبات والطلاب. آن الأوان لكي يدرك الثوار لإشراك النساء في العمل السياسي والحزبي، وبذل جهد إضافي في هذا السياق، لأن ذلك يمنح هذا العمل رافداً، يؤثر في الأجيال الجديدة، كي تؤمن بأن الحزبية والانضمام إلي العمل الحزبي، هي فكرة مهمة للغاية، للدور الذي يمكن أن يلعبه الإنسان رجلاً وامرأة في تغيير مجتمعه، كما أنها تمنح الأحزاب، والجديدة منها علي وجه التجديد، تكوين رؤى واقعية تجاه قضايا المرأة، فضلاً عن توعية المرأة نفسها للتعامل مع الشعارات التي ترفعها الأحزاب والقوي السياسية المختلفة، والتمييز فيما بينها، حتي تختفي ظاهرة النساء اللاتي ترفعن مطالب معادية لمصالح المرأة، وحتي تميز المرأة بين القوي التي تدفع بها إلي الأمام، والأخري التي تجذبها بعنف إلي الخلف، باستغلال شرير لنوازع التدين الفطري لديها. ويا أيها الثوار.. لا ديمقراطية دون حرية حقيقية للمرأة، ولا ديمقراطية دون مشاركة واعية وفعالة من النساء، فلماذا تصمتون علي إهدار تلك الحقوق؟