لماذ لم يذكر الروائي الراحل خيري شلبي قرية "شباس عمير" داخل أي متن من أعماله الروائية أو النقدية؟ كان هذا هو الدافع الأول للبحث عن العلاقة بين خيري شلبي وعالمه الذي استمد منه الحكايات وشخوص رواياته, المرآة المعكوسة داخل نصوص الأديب ومدي تأثيره على مسيرة الحياة الإبداعية والكتابية, طفولة الكاتب ومذهب علم النفس الأدبي الذي برع فيه العبقري سويف ومصطفي حنورة. كانت رحلتي إلى قرية الروائي الراحل أقرب للباحث الأدبي منها إلى الصحفي الذي يحاول الوقوف على ملامح التكوين والتشكيل والرؤيا الفنية وحملت بداخلي العديد من التساؤلات حول نشأة الكاتب وظروفه الحياتية, متحيزا في اكتشافي إلي مذهب اجتماع الأدب لمحاولة اكتشاف سر التكوين والموهبة . "شباس عمير" قرية تتبع لمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ , كانت هي محور الحدث الدرامي لمسلسل شلبي "الوتد" بطلته الحاجة تعلبة وتد العائلة والتى تمثل في الواقع زوجة عم الروائي الراحل؛ تلك السيدة التى عُرفت بجبروتها وقوتها وثبات شخصيتها مما يجعلها تتحكم بمقاليد الأمور والتصرف فيها, هكذا أخبرني الشقيق الأصغر للروائي الحاج حسني شلبي . بداية الخيط للوصول إلى عائلة الروائي الراحل كانت عبر أحد شباب القرية ويُدعي أمير الكاشف؛ وهو شاب يعرف سيرة شلبي جيدا وقد قرأ معظم أعماله ودشن مع بعض رفاقه موقعا إليكترونيا للحديث عن قرية شباس عمير ومشاكلها, طرحت سؤالي أمام الشاب كيف رأت قرية شباس عمير مسلسل "الوتد" وكيف تقبلت العمل الذي يكشف أسرار القرية ؟ وجاءت إجابة الشاب لتوضح إن حالة من الإستياء سادت بين أوساط أسر القرية بسبب ما حمله المسلسل واعتبره البعض إهانة لتاريخ أسرهم وحياتهم القروية, وتطور الأمر ودفع بأحد أفراد أسرة الحشاشين ليقوم برفع دعوي قضائية ضد كاتب العمل. وتساءل بعض الشباب لماذا لم يذكر شلبي سيرة قريته داخل أي عمل أدبي على خلاف سعيد الكفراوي الذي احتفي بقرية "كفر حجازي" أو الغيطاني التى تعد أعماله تطورا لمسيرة القرية وأناسها وتخليدا لها في كتاباته الأدبية . ورأي آخر لأحد الشباب الذي كان منفعلا في الحديث قائلا: "إن خيري شلبي كان مُقلا في زيارة قريته لكنه تذكرها فقط في موته , ولأن القرية كالأم حنونة على وليدها فقد احتضنته ودثرته بترابها . وكانت بداية الكشف من منزل العائلة الذي تربي فيه الروائي وبالتحديد مع الحاج حسني رفيق الكاتب وشقيقه الذي استدعي الماضي البعيد بتنهيدة رجل قروي بسيط, راح الرجل يحكي عن الحاج شلبي أو أحمد افندي شلبي خريج مدرسة الميكانيكا. فكان الأب شغوفا بالتعليم الديني والقراءة في المذاهب الدينية فكون مكتبة صغيرة تحوي كُتب السيرة النبوية العطرة وحكايات الصالحين والاولياء والانبياء ,لكنه على الرغم من تدين الاب كان شخصا يميل إلى الفكاهة والنكتة . تزوج الوالد من سيدة سكندرية من أحد الأسر الراقية وأقام معها بحي الأنفوشي وأنجب منها طفلا أسماه خيري وأثناء اندلاع الحرب العالمية خشي على اسرته بسبب اقتراب الألمان من العلمين فقرر أن يرحل إلى قريته لينعم بحياة آمنة برفقة ابنه وزوجته ,إلا أن زوجته رفضت القدوم إلى القرية كون نشأتها الثرية والتي حالت من إمكانية الحياة بوسط الفلاحين والتعامل الحياتي معهم ؛ وتحالف القدر فغيب خيري الصغير عقب اصابته بمرض التيفود . واستقر الأب بقريته شباس عمير وتزوج منها سيدة طيبة اقرب إلى الخادمة المطيعة دخل عليها وهي ابنة 12 عاما , وانجب منها 13 بطنا ,ولأن الاب كان يميل إلى الفكاهة فكان يرزقه الله بالبنت فيسميها خيرية اما الولد فيسميه خيري ثم حمدي وحمدية وحسني وحسنية ,ومع تطور الزمن بدأ الاهل ينصحونه بالاقلاع عن عادة التذكير والتأنيث في الاسماء فأنجب حسانا ثم نفيسة تيمنا بأهل البيت النبوي؛ وكان في فترة مفتونا بالملكة الانجليزية فيكتوريا فسمي ابنته فيكتوريا ,ومنها إلى خيرات ثم الشهيد محمد الذي توفاه الله في حرب 1973م,وآخر العنقود هو الحاجة نبيلة . لم يكن خيري شلبي شقيقي مثل أبناء القرية, كان دائما غريبا عنهم وحتي عن اشقائه ,كان يتركنا ويترك لعب الصغار ويروح لينصت لحلقات الذكر في الموالد ,ثم يعود ليحكي لنا ماسمعه بإضافة منه ,فكان أبي يبتسم لانه كان يعلم سيرة المنشدين ويحفظ الحكايات التى ينشدونها ,واصبح الصبي مفتتونا باعادة الحكاية وانتاجها بشكل جديد ,فوجد ضالته عند محل الترزي الذي كان يجاور دارنا ,كان محل الحاج سيد الترزي مصطبة صغير يجتمع فيها الفلاحون يحكون حياتهم وبعض همومهم وهم يدخنون الشيشة أو السجائر اللف ,لم تكن القهاوي منتشرة في البلد مثل الآن. وجد شقيقي خيري ضالته عند الترزي والفلاحون الذين يجلسون؛ ومارس خيري هوايته في إعادة انتاج الحكايات التى شغف بقراءتها ومرت الأيام على هذا المنوال, وفوجئنا بأن رجالا يكبرون خيري بأعوام كثيرة يأتون إلى الدار للسؤال عن خيري, وبدأ الوالد ينزعج ويتخوف على الإبن ويريد إدراك سر تعلق الرجال بابنه, فتبعه ذات مرة وتنصت عليهم , فوجد ابنه يجلس بينهم مجلس كبير الجلسة ويحكي لهم حكايات قد قرأها من قبل لكنه كان يضيف إليها, وكانت هذه المرة هي بداية الصدام, بين الابن وابيه الذي رفض ابوه أن يُعيره المال لشراء الكتب مخافة أن يفسد كثرة المال أخلاقه. وفي هذه الفترة التحق شلبي بمعهد المعلمين بدمنهور لكنه تركه وهو في الفرقة الثالثة, وسافر دون علم منا إلى الاسكندرية ليعمل مندوبا بشركة مبيعات هناك وظل بعيدا عن الأسرة طيلة 5 سنوات لا تعرف الأسرة عنه أي شيء, تنقل فيها من الاسكندرية إلى القاهرة ورافق عمال التراحيل واصحاب المهن اليدوية تارة على المقاهي وتارة أخري يقتسم معهم غرفة أو مكان للمعيشة, لكنه في نفسه أصر أن يذهب للقاهرة ليلتحق بمعهد السيناريو لمدة عامين حصل فيها على مرتبة متقدمة بين الدارسين وبعده كتب سيناريو رواية الأيام لعميد الأدب وقدمه للإذاعة المصرية . ويبقي السؤال الأهم لماذا خاصم الروائي قريته وتجنب سيرتها في اعماله ؟..ويرد الشقيق الأصغر: " للأسف العلاقة بين خيري شلبي وقرية شباس عمير علاقة ملتبسة عصية على الفهم لدي الناس ,أولا أوضح للجميع إن خيري عندما فكر في الزواج فكر في الارتباط بواحدة من ابناء القرية ليدوم التواصل بينه وبين شباس عمير وانجب من السيدة- الحاجة فوزية انور - التى تزوجها ابنائه وهم "زين العابدين ,ريم ,اسلام ثم ايمان " حتي ابنه اقترن بواحدة من ابناء قرية مجاورة لقريتنا لايمان خيري بان جذوره هنا بشباس عمير ,لكن دعني اصارحك بما لا يعرفه البعض حول هذه العلاقة الغريبة بين شباس عمير القرية والروائي ابنها, لقد ظلت القرية وابنائها ينظرون إلى خيري على انه "صايع" لا عمل له ,وانه واهم وانه يمتطي الريح ويحلق في السراب ,كان أهالى القرية تسأله عن مهنته فيقول لهم "أنا كاتب " فيرد أهالى القرية "كاتب ..يعني موظف ميري بمرتب واجازة سنوية وتأمين صحي "... كان خيري يسكت وذات مرة صافحني خيري منذ زمن وعينه مليئة بالدمع المكتوم لكنه لم يصرح سوي بجملة واحدة "أنا ماش يا حسني مش عايز اجي البلد الا لما الناس تعرف يعني إيه كاتب".