علي عكس الجماعات الدينية سواء الإسلامية أو المسيحية المعتدلة والمتشددة التي تعترف العمل السياسي والتي ترفضه، تعامل النظام السابق مع البهرة في مصر بطريقة خاصة، إذ سمح لهم بممارسة طقوسهم في أكبر المساجد الأثرية بالقاهرة بعيدا عن أعين أمن الدولة وأحيانا في حماية الشرطة رغم أن غالبيتهم ليسوا مصريين. علاقة غامضة ومتناقضة بين الرئيس المخلوع حسني مبارك، والملياردير الهندي الملقب بالسلطان محمد برهان الدين، زعيم طائفة البهرة، الذي التقاه مبارك أكثر من مرة واستقبله بنفسه في المطار بالقاهرة 2007 وقبلها في شرم الشيخ 2005. هذه العلاقة المشبوهة مع طائفة «البهرة» الشيعية التي مازال الغموض يسيطر عليها، إذ ظلت خلال فترة حكم مبارك التي امتدت ثلاثة عقود، تلقي الرعاية والاهتمام، وفي الوقت الذي تعامل فيه النظام بقسوة مع الإخوان والسلفيين وسخر الصوفيين لخدمة نظامه، سعي مبارك إلي حماية البهرة ومصالحهم، وسمح لهم بشراء الأراضي والعقارات والمحلات التجارية والمصانع، حتي سيطروا علي أهم مناطق مصر التاريخية في الأزهر والحسين والقاهرة الفاطمية وتحديدا حول مسجدي الحاكم بأمر الله والأقمر بمنطقة الجمالية، بخلاف مئات المحلات التي استولوا عليها بمنطقة وسط البلد. والمدهش أن السلطان برهان الدين كان يصطحب معه سيارات الرئاسة الخاصة للمرور علي المزارات الفاطمية ورعاياه من أبناء الطائفة في مصر، مع توفير حراسة مشددة في جميع تحركاته وحول مقر إقامته في شارع الأحرار بالمهندسين، والذي يسكنه الكثير من أفراد الطائفة. رغم انعزالهم عن المجتمع المصري بسبب انتمائهم لأصول هندية وباكستانية وإيرانية ولغتهم المختلفة لكنهم يحرصون علي تثبيت أقدامهم في مصر من خلال التوسع في شراء العقارات والمحلات التجارية، لكن من يقوم بإدارتها مصريون مقربون منهم وتقتصر علاقتهم بهم علي العمل فقط. البهرة تعني «التاجر» باللغة الهندية، وهم طائفة من الشيعة الإسماعيلية يحبون مصر بشدة ويعتقدون اعتقادا راسخا أن الإمام الغائب سوف يعيد دولة الخلافة الفاطمية من مصر وسوف تسود الأرض عدلا علي يديه لذلك فهم يركزون علي مصر دون غيرها من الدول، ويهتمون بأهل البيت فهم يذهبون ليلا وقبيل صلاة الفجر بعيدا عن الأنظار مصطحبين أطفالهم، كما أنهم يتقربون لأهالي المنطقة بالخدمات ولا يحبون السياسة. بدأ ظهورهم في مصر أواخر السبعينيات في عهد السادات بعدما رفض عبد الناصر وجودهم وتزايدت أعدادهم في الثمانينيات وقاموا بترميم وتجديد الكثير من الآثار الإسلامية في القاهرة أهمها مسجد الحاكم بأمر الله ويتميزون بزي خاص فالرجال يرتدون قمصانا بيضاء طويلة وتحتها سراويل بيضاء وقبعات مميزة، ويطلقون لحيتهم، أما النساء فيرتدين ملابس تشبه ملابس الصلاة التي ترتديها المصريات ولا يلتزمن بلون معين وفي الغالب تكون ألوان ملابسهن زاهية ومزركشة. وقد تمكنوا من السيطرة علي العديد من المساجد التاريخية أمثال الأقمر واللؤلؤة والأنوار والجيوشي والحاكم بأمر الله الذي يعتقدون خروج المهدي المنتظر من تحت أحد أبياره التي تقع في صحن المسجد، وفي ذلك دلالة واضحة علي مخطط البهرة للعودة إلي مصر وأملهم في استعادة الخلافة الفاطمية التي امتدت أكثر من 200 سنة وطال نفوذها المحيط الأطلسي وشمال أفريقيا ومصر والشام واعتنق مذهبهم أهل العراق وزالت دولتهم علي يد صلاح الدين الأيوبي، الذين فروا منه واتجهوا إلي الهند وأقاموا فيها لكنهم لم يتخلوا قط عن حلم العودة إلي مصر. ويتردد أنهم يقفون وراء مشروع تطوير القاهرة الفاطمية الذي تبناه فاروق حسني بتعليمات من سوزان مبارك، ويهدفون من ورائه إلي إخلاء القاهرة الفاطمية من السكان، وعندما وجدوا معارضة شديدة من أهالي هذه الأحياء الشعبية، تم العدول عن الفكرة والاكتفاء بعملية الترميم التي غيرت ملامح المنطقة وعادت بها مئات السنين إلي الخلف حيث الطابع القديم للقاهرة الفاطمية. وعكست جولة ميدانية قامت بها «الوفد الاسبوعي» في القاهرة الفاطمية والمساجد التي يتردد عليها البهرة، الحرية التي تمارس بها هذه الطائفة شعائرها، حيث لا يعكر صفوهم غير نظرات المتطفلين التي تتعقبهم أينما ذهبوا ويحاولون التغلب عليها بالتحرك وقت سكون الناس، وخلال تواجدنا في المسجد أثناء صلاة المغرب لاحظنا تزايد إقبال أبناء البهرة علي ارتياده، وأداء الطقوس الدينية الخاصة بهم، وقال أحد العاملين بالمسجد - رفض ذكر اسمه - إن البهرة يهتمون في رمضان بصلاة المغرب التي لها مكانة خاصة عندهم ويصلونه أربع ركعات ثم يفطرون في المسجد وينصرفون قبل قدوم أهالي المنطقة لصلاة العشاء والتراويح. ويرفض البهرة بشدة التحدث مع أي شخص أيا كان، بحجة أنهم لا يتحدثون اللغة العربية، ويؤدون شعائرهم بلغتهم الخاصة «الاوردو» ، وفي محاولة لاستفزاز أحدهم وجهت إليه اتهامات بأنهم يحاولون السيطرة علي البلد من خلال شراء العقارات والمحلات فرد بالعربية بطلاقة تامة، أنهم يشترونها للتجارة وبهدف توفير معيشة مميزة لهم ولأبنائهم، مؤكداً أن ذلك يعمل علي تنشيط الاستثمار في البلد، وعندما قلت له إنكم كنتم تدفعون لنظام مبارك مقابل السماح لكم بممارسة طقوسكم، ردد كلاما غير مفهوم وتركنا وانصرف. ويأتي زعيمهم محمد برهان الدين الذي يبلغ من العمر 96 عاما إلي مصر كل عام للاحتفال بعيد ميلاده في القاهرة الفاطمية باستثناء العام الماضي حيث منعه المرض من القدوم إلي القاهرة، ويتم الاحتفال وسط طقوس خاصة وبحضور رسمي رفيع المستوي كان يتقدمه د.حمدي زقزوق وزير الأوقاف السابق وعلي جمعة مفتي الديار المصرية ود.أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر الأسبق. بينما يقيم جلال الدين دراز، كبيرهم في القاهرة، بمنطقة المهندسين ويمتلك عدة متاجر في القاهرة الفاطمية، بالإضافة إلي امتلاكه فندقا خاصا بالبهرة مع أربعة رجال أعمال هنود من بمنطقة الدراسة يسمي «دار الفيض الحاكمي» ، ينزل فيه البهرة الذين يأتون من خارج مصر لزيارة القاهرة، خاصة وقت الاحتفال بمولد زعيمهم محمد برهان الدين، ويعتبر ذلك الفندق من أقرب الأماكن للمزارات التي يذهبون إليها. ويقول محمد الدريني رئيس المجلس الأعلي لرعاية أل البيت إن البهرة يقدمون دعما للحكومة بين الحين والآخر، وفي عهد حكومة عاطف صدقي تبرع البهرة بنحو600 مليون دولار، وبين الوقت والآخر يقوم سلطان البهرة بزيارة مصر وبعض الدول العربية ولعل الصورة التي نشرتها وسائل الإعلام وقد لف فيها سلطان البهرة الرئيس مبارك بعلم البهرة لها دلالتها السياسية. «البهرة يرفضون تماما الاحتكاك بالأهالي» هكذا تحدث مروان أحد العاملين بالمسجد، فهم يأتون للصلاة والعبادة وينصرفوا، ويرفضون محاولة أي شخص اقتحام حياتهم، لكنهم يتعاملون معنا بكرم. فيما يؤكد رمضان السكري صاحب محل عصير أمام مسجد الأقمر، أنه منذ ظهورهم بدأت عملية الترميم في مسجد الحاكم بأمر الله حتي وصلت إلي الشوارع والحواري المحيطة به، ويتردد أنهم ينفقون ببذخ في عملية الترميم. ويبقي مصير البهرة غامضا في مصر بعد خلع مبارك، والأيام القادمة ستكشف ما إذا كانوا سيلقون نفس المعاملة أم ستتحول ليبقي تواجدهم في مصر غير مرغوب فيه.