ضمن موجات الحوارات المألوفة والتي تجرى بشكل منتظم في الولاياتالمتحدة، تدور مناقشات حول هذا السؤال: هل تخلصت أمريكا، في بيئة عالمية متغيرة، من عقيدة مسيطرة عليها، بأن تكون القوة العظمى المهيمنة، أم أنها يمكن أن تتكيف مع هذا التغير، وتقبل أن تكون واحدة ضمن مجموعة قوى متساوية في النظام الدولي؟ بعض المقتنعين بأن القوة الأمريكية في العالم تتراجع، يطرحون سؤالاً آخر هو: وهل توجد على المدى القريب قوة قادرة على منافسة أمريكا؟ وبصرف النظر عن إقرار مؤسسات مسؤولة، منها المخابرات المركزية، بالتراجع النسبي للقدرات العسكرية الأمريكية، ونفوذها السياسي في العالم، إلا أن هناك وجهة نظر أخرى يطرحها الذين يجيبون عن هذه التساؤلات، وهي أن الولاياتالمتحدة، التي توجت عقب الحرب العالمية الثانية عام 1945، على عرش الدولة الأكثر تقدماً، والتي يتمتع مواطنوها بالرفاهية، والسهولة في تحقيق مطالبهم، وأنها الدولة التي تسيطر على الاقتصاد، والسياسة، والثقافة في العالم، إلا أن هذه أشياء لم تعد تتوافر لها اليوم، وأنها تواجه قوى منافسة بعضها تتشكل لها قواعد تقيم مراكز للإلهام الحضاري والثقافي، الذي كان حكراً على الولاياتالمتحدة، كمركز الجاذبية في العالم. كما أن الولاياتالمتحدة تتعرض حالياً لضغوط اقتصادية، تحد من قدراتها القديمة التي كانت تستطيع بها حل مشكلاتها الداخلية، وأن تحقق في سهولة ويسر برامج الرفاهية الاجتماعية. وهو ما سيحد من دورها الخارجي، واستعدادها للوفاء بالتزاماتها في العالم. وكان الدبلوماسي أرون ميللر الذي كان مساعداً للرئيس الأمريكي في مفاوضات السلام في الشرق الأوسط، قد نشر أخيرا مقالاً في مجلة «فورين بوليسي»، قال فيه: إن أولويات أوباما، تحتلها المشكلات الداخلية، التي تسبق أي محاولة لتبديد أموال وجهود أمريكا، على نزاعات في الخارج. وهذا المعنى نفسه تحدثت عنه مجلة «إيكونوميست» البريطانية، وقالت إن أوباما ليس مهتماً باتخاذ موقف حاكم تجاه النزاعات الخارجية، وهو يراعي في قراراته، تجنب أي إجراء يؤثر في قوة أمريكا ومصالحها. إن مفهوم قوة أمريكا، لا يزال مرتبط ارتباطاً وثيقاً، بالتفوق والهيمنة، لأن استمرار الهيمنة من وجهة نظر صناع السياسة الخارجية شرط للاستقرار العالمي، وضمان لعدم ظهور قوى منافسة. وهذا ما نصت عليه وثيقة التخطيط الدفاعي لعام 1992، عن ضرورة أن تعمل أمريكا على إثناء الدول الصناعية الكبرى، عن تحدي زعامة أمريكا. ثم تكرر إعلان ذلك في بنود استراتيجية الأمن القومى للسياسة الخارجية عام 2002، التي نصت على مبدأ الضربة الاستباقية على عدو محتمل، وعدم قبول ظهور أي قوة منافسة إقليمياً أو دولياً. لكن يظل في إطار المناقشات، قول هنري كيسنجر: في النظام الدولي للقرن الحادي والعشرين، ستكون أمريكا فيه، واحدة ضمن مجموعة قوى متساوية في نظام متعدد الأقطاب. وفي إطار هذا الاختلاف هناك من يرون أن أمريكا ستظل القوة المهيمنة، ومن يدعون لتغيير الفكر الاستراتيجي، حتى لا تصطدم الولاياتالمتحدة، بالتغيير الجاري في العالم، الذي يؤدي إلى ظهور قوى بعضها صاعدة تمتلك مقومات النفوذ على النظام الدولي، وبعضها تأكدت قدرتها على منافسة أمريكا كالصين. وهؤلاء ينبهون إلى أن التوافق بين أفراد الشعب الأمريكي حول السياسة الخارجية، كان من أهم مقومات قوتها عالمياً، فكان داعماً لقدراتها المادية، ومسانداً لسياستها الخارجية. وهذا التوافق لم يعد موجوداً، لوجود انقسامات معلنة بين النخبة والخبراء، بالإضافة إلى انقسامات داخل إدارة أوباما؛ خاصة في وزارتي الخارجية والدفاع، واستطلاعات رأي تظهر عدم رضا متزايد عن السياسة الخارجية. ولم يعد يغيب عن أي متابع، المأزق التاريخي الذي وضع فيه أوباما نفسه، فهو الذي أعلن عقب توليه الرئاسة عام 2009، أن مبدأه للسياسة الخارجية هو مبدأ المشاركة Partnership، قائلاً إن الولاياتالمتحدة، لم تعد تستطيع أن تتصدى منفردة للتحديات لأمنها القومي، أو أن تقوم وحدها بحل الأزمات والمشكلات الدولية، وأنها تحتاج شركاء يتعاونون معها لحلها، وكان ذلك نتيجة فهم وإدراك لحقيقتين: أولاهما أن العالم يتغير من حول أمريكا. والثانية أن تراجع القدرات الأمريكية يفرض عليها التركيز على الداخل، على حساب دورها العالمي، الذي دام عشرات السنين. لكن مأزق أوباما جاء نتيجة تركه هذا المبدأ مجرد طرح نظري من دون أن يستكمله بالخطوات العملية، التي توفر له الحيوي والفعالية، والتي تتمثل في الانتقال إلى علاقات تبادلية مع دول العالم، تراعي مطالبها ومصالحها، وليس انتقاء المواقف بما يراعي مصالح أمريكا في المقام الأول، حتى ولو ترتب على ذلك مردود سلبي على هذه الدول وشعوبها. ونظراً لتعدد القوى المشاركة في قرار السياسة الخارجية في الولاياتالمتحدة، والمسموح لها بممارسة ضغوط داخلية على الرئيس، فإن بلورة رؤية نهائية تجيب عن السؤال المطروح في مقدمة هذا المقال، لم تحسم بعد. ولا يزال الجدل دائراً. نقلا عن صحيفة الخليج