اعتادت الولاياتالمتحدة أن تضع استراتيجيتها للأمن القومي، وهي ضامنة لاستمرار صلاحيتها للأجل الطويل، حتى إن استراتيجيتها التي بدأ العمل بها عام 1947 مع نهاية الحرب العالمية الثانية، قد استمرت لأكثر من خمسين عاماً. وكان ما يضمن لها استمراريتها أن الصراع العالمي بينها وبين الاتحاد السوفييتي، كانت تحكمه قواعد، يراعيها الطرفان، وكل منهما يعرف حدود مواقف الطرف الآخر العدائية تجاهه، بالإضافة إلى ثبات الأوضاع الإقليمية، واستجابتها لمصالح القوى الكبرى . لكن هذه الضمانات دولياً، وهذا الثبات إقليمياً، قد تهدمت قواعدها، وبدأت بوادره تلوح من بعد انتهاء الصراع الأمريكي - السوفييتي بنهاية الحرب الباردة، وكان من نتيجة ذلك أن استراتيجيات الولاياتالمتحدة صارت قصيرة العمر، بتأثير أحداث، إما لأن الولاياتالمتحدة لم تتوقعها، أو لفقدانها القدرة على السيطرة عليها . وهو ما دفع خبراء أمريكيين لوصف هذه الحالة، بأنها حالة نشوء فراغ غير متوقع في عالم الفكر السياسي الأمريكي . كانت الحرب الباردة قد انتهت في عهد الرئيس بوش الأب، فحاولت حكومته صياغة مبدأ جديد يمثل أساساً لاستراتيجية جديدة، ثم حاول نفس الشيء كلينتون من بعده . لكن جهودهما باءت بالفشل، وعبّر عن ذلك أنتوني ليك مستشار الأمن القومي لكلينتون، الذي كتب تحليلاً يقول: لا نستطيع حالياً تلخيص سياستنا الخارجية في عبارة واحدة، تصف لنا حالة ما بعد الحرب الباردة . وأضاف إلى كلامة جيمس ستينبرغ مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية وقتها، قوله إن العالم الذي نواجهه حالياً، شديد التعقيد، بحيث لا تصلح لتشخيصه نظرية واحدة، واستمرت أمريكا تستخرج من استراتيجية الخمسين سنة السابقة، بعضاً من قواعد إدارتها للسياسة الخارجية . وحين أعلن جورج بوش عام ،2002 استراتيجية جديدة للأمن القومي، فإنها لم تصمد لأكثر من ست سنوات، ولما تولى أوباما الحكم، فقد واجهه نفس موقف عدم صلاحية استراتيجية قادرة على مواجهة تحولات لم يتوقعها في العالم . أوباما أصدر وثيقة استراتيجية في بداية عام 2010 في وقت لم تكن قد بدأت فيه أحداث الربيع العربي، ولم تكن روسيا قد دخلت مع الغرب في صراع بشأن أزمة أوكرانيا، وكانت تهديدات تنظيم "داعش" الإرهابي، لا تزال محصورة في أعداد صغيرة نسبياً من الإرهابيين في سوريا . وبعد خمس سنوات تقريباً، اعترف البيت الأبيض بأن الرؤية الاستراتيجية لعام 2010 ، لم تعد صالحة، وهو ما عكس تحولاً في التفكير في قضية الأمن القومي، فقد أعلن البيت الأبيض عن استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية، تركز على قضيتين رئيسيتين، وضعهما في مكانة متساوية، باعتبارهما، تمثلان تهديداً للأمن القومي، وهما قضية القيادة الأمريكية للعالم، والتي يواجهها الآن خطر الإرهاب، وقضية منافسة القوى الكبرى الأخرى . كثيرون تناولوا هذا التحول في دراسات استراتيجية، من أهمها ما ذكرته جوليان سميث، مديرة البرنامج الاستراتيجي في مركز الأمن الأمريكي الجديد، وقالت: من الواضح أنه يجب عليها الاعتراف بأن الوضع الأمني للعالم تغير تماماً منذ عام 2010 . وأن سياسات القوى الكبرى قد عادت للظهور، وأن الولاياتالمتحدة تواجه بمطالب من روسيا بشأن وضعها العالمي، وبسياسة خارجية مختلفة للصين، وكان ذلك من أسباب لجوء قيادة الولاياتالمتحدة، إلى التحالفات لضم مجموعة من الدول، للعمل معاً في المجالات الدبلوماسية، والاقتصادية، والعسكرية، من أجل تخفيف العبء عن واشنطن، وتوفير أموالها، وإراقة دماء جنودها، في حراسة الأمن المشترك للعالم . وحتى تصبح الاستراتيجية الجديدة واضحة المعالم، فقد ذهبت سوزان رايس مستشارة الأمن القومي لأوباما، إلى معهد بروكنغز لتشرح أمامه في خطاب لها هذه الاستراتيجية . وقالت: إن الهدف الرئيسي من الاستراتيجية الجديدة هو تقوية أسس قوة أمريكا سياسياً، واقتصادياً وعسكرياً، وإطالة بقاء قيادة أمريكا العالمية في هذا القرن، وأن وثيقة هذه الاستراتيجية تمثل خريطة، لما ننوي أن نفعله بشأن تقليص وجود تنظيم "داعش"، ومعارضة سلوك روسيا، فضلاً عن إيجاد عالم يمكنه أن يواجه بفاعلية، أخطار تغير المناخ، والأمراض، وتهديدات النت، والفقر الشديد . يبقى أنه مادام الاحتياج الأساسي لاستراتيجية أوباما الجديدة، هو التحالفات ومشاركة الآخرين في تحمل أعباء مواجهة التحديات لأمنها القومي، وأمنهم كذلك، وأن هذه المشاركة من وجهة نظرها مسألة لا غنى عنها، فإنه لابد من أن يرى الآخرون مواقف أمريكية، تضع في اعتبارها، أن تحقيق ما تطالبهم به، يحتاج قبل أي شيء إلى إقرار مبدأ تبادلية المصالح، والمراعاة لأمنهم، مثلما هو مطلوب منهم مراعاة مصالح أمنها . نقلا عن صحيفة الخليج