في عام 1970 كتب الناقد الأدبي لصحيفة «دي تسابت» - أي الزمان - الألمانية: إن الناس في مصر يعرفون «نجيب محفوظ» ، ولكنهم لا يعرفون قيمة أدبه، فلو كان عندنا لأنفقنا مئات الملايين حتي يحصل علي جائزة نوبل! ومرت السنوات، دون أن تنفق الدولة مليماً، وحصل نجيب محفوظ عام 1988 علي نوبل.. بالموهبة، والعمل، والأمل، وكان من حظ الروائي والكاتب «محمد سلماوي» أن اختاره «محفوظ» يتسلم هو بدلاً منه الجائزة في السويد، ولو كان «سلماوي» أنفق الملايين ليقف ويتسلم هذه الجائزة، ما تحقق له، إلا بثقة الأستاذ في موهبته وشخصه ناهيك عن أن «سلماوي» و«الغيطاني» و«القعيد» و«الأبنودي» وغيرهم من مبدعي مصر - قبل الناس كلها - عرفوا قيمة نجيب محفوظ وقيمة أدبه، فاقتربوا منه، واقترب منهم. ذهبت الي الروائي والكاتب الكبير «محمد سلماوي» لإجراء هذا الحوار، مسكنه في ضاحية المعادي وقبل منزله بشارع لاحظت فيلا جميلة - أو كانت جميلة - هدمت، ويقام مكانها بناية خرسانية غاية في «القبح»، استغلالاً.. لزمن الفوضي الذي نعيشه، فهل حال «الفيلا» الجميلة التي راحت، من حال الوطن..! ربما وصلت في الموعد المحدد.. فكان الاستاذ في انتظاري.. وإلي نص الحوار. مشاهد وصور رمضان.. في طفولتك كيف كانت؟ - المرتبط بذهني من أيام الطفولة في رمضان كانت - ومازالت - هو صوت الشيخ محمد رفعت، القرآن الذي كان يتلي قبل مدفع الافطار للشيخ «رفعت» كان يأتينا عندما ندير - أو الأسرة - مؤشر الإذاعة علي صوته، لننتظر، ونحن في حالة انصات حتي آذان المغرب أو مدفع الإفطار. إذن صوت الشيخ رفعت كان علامة مميزة قبل آذان المغرب في رمضان؟ - بالضبط.. مازال صوته في أذني، وصور المنزل وحركة اسرتنا، وشكل الراديو، والصوت الذي أتي منه، هي اكثر اشياء في ذهني: فأنا عندما أقول رمضان فهو لدي صوت الشيخ محمد رفعت، الذي للأسف لم نعد نسمعه الآن. ولماذا الأسف؟ - لأنه بدأ لدينا الآن اتجاه قادم إلينا من خارج مصر، يفرض علينا الترتيل وليس التجويد الذي كانت تتميز به أصوات مثل صوت الشيخ رفعت علي اعتبار أن النغم الموجود في التجويد «حرام» وأن الموسيقي حرام، بينما النبي علي الصلاة والسلام عندما دخل المدينة استقبلوه بالموسيقي والغناء. وهل نحن - كشعب - نميل للتجويد أم الترتيل؟ - للتجويد طبعاً.. فهو يعود الي مصر القديمة الفرعونية ونحن الذين اخترعناه وأذكر أن أحد أصدقائي المسيحيين الكتاب، جاء لي بشريط كاسيت عندما تسمعه تسمع «تلاوة» قرآنية، لكن تحاول سماعها لا تستطيع سماع الكلمات لكنها «تلاوة» وهو في واقع الأمر ليس قرآنا! إذن ما هو؟ - هو مسجل من كنيسة باللغة القبطية، عبارة عن إنشاد ديني من كنيسة تكادتجزم وأنت تستمع إليه أنه قرآن لأنه نفس طريقة «التلاوة» وهي التجويد. التجويد في الأناشيد القبطية؟ - نعم، وهو موجود في الكنيسة من أيام الفراعنة، حيث تحول الأمر من أناشيد اخناتون الي التراتيل والترانيم المسيحية، بعدما انتقلت مصر الي المسيحية، ثم جاء الاسلام فأخذ المصريون ينشدون القرآن، بنفس الأنغام، لذلك عندما نسمع القرآن بصوت الشيخ رفعت ومصطفي اسماعيل نطرب له جداً، لأن هذا متوارث فينا، وجزء من تكويننا الوجداني، ومن أيام مصر القديمة ونحن صدرناه الي مختلف أنحاء العالم الاسلامي ثم في العقود الأخيرة اختلف الأمر. كيف؟ - اختلف وتحول عندما جاءنا مع الوهابية والتطرف ومن أشياء تريد أن تلبس الاسلام رداء قبيحاً وغريباً عليه، ضمن هذه الموجة جاء من يقول: إن التجويد حرام وأن القرآن يجب أن «يرتل» هذا الترتيب الذي لا موسيقي فيه، بينما هذا جزء من تراثنا الاصيل الذي علمناه للعالم كله، خاصة العالم الاسلامي الذي اصبح فيه مقرئون ينتمون لمدرسة الشيخ رفعت وعبد الباسط عبد الصمد وأبو العينين شعيشع. ومتي بدأت تحل علينا هذه الظاهرة الذي حلت فيها «التلاوة» مكان «التجويد». - الظواهر الاجتماعية الكبري لا تستطيع ارجاعها الي سبب واحد، بعض الناس تري سبباً والبعض يري أسبابا أخري، لكن حقيقة الأمر هي عدة أسباب مجتمعة. وما هي هذه الأسباب؟ - أولها ما حدث للفكر القومي العربي، علينا ألا ننسي ان الحركة الوطنية في مصر كانت دائما ما يتنازعها اتجاهان اتجاه قومي عربي واتجاه أممي اسلامي، كان ذلك بعد انتهاء الامبراطورية العثمانية، حيث كنا نبحث عن الاستقلال، طيب.. بعد الاستقلال ما هي هويتنا؟ هل نحن عرب أم أفارقة أم فراعنة أم متوسطين أم مسلمين أم ماذا؟ وهل عرفنا «احنا مين»؟ - تحول السؤال هنا الي اتجاهين، الأول يقول: اننا جزء من الامة الاسلامية واتجاه آخر يقول: إننا جزء من الامة العربية، وظل الاتجاهان يتصارعان الي قبل ثورة يوليو، الاتجاه الاسلامي كان يعبر عنه الاخوان المسلمون والاتجاه القومي تعبر عنه الحركة الوطنية. وإلي أي اتجاه ذهبت حركة يوليو؟ - فكت هذا الاشتباك، التي وضعت يدها علي مصر باعتبارها هوية عربية، دون أن تغفل انتماءها الاسلامي والافريقي، وهذه فكرة الدوائر الثلاثة التي تحدث عنها جمال عبد الناصر في فلسفة الثورة. طيب احنا مين يا أستاذ؟ - ثورة يوليو قالت الأساس: إننا عرب، باعتبار أن العربي المسيحي سواء كان قبطياً لبنانيا أو سودانيا أقرب لي من المسلم الذي يعيش في أوزباكستان، أو في مجاهل أفريقيا. إذن تحدد الانتماء علي أنه انتماء عربي؟ - بالضبط.. هذا الانتماء ضرب في 67 وانهزمت القومية العربية، ومن غرائب التاريخ الحديث عندنا أنه بعد ذلك بسنوات قليلة استعادت مصر كرامتها بحرب اكتوبر، وعروبتها لأنها كانت حربا عربية وليست مصرية فقط، وما كان لحرب اكتوبر أن تحدث، لولا التنسيق مع اطراف عربية، وأن الوطن العربي كله شارك إما بالبترول أو التأييد السياسي أو مثلما فعلت الجزائر وأرسلت طائرات لمصر. إذن اكتوبر كانت حربا عربية؟ - بدون شك، وكان مفترضا ان يستتبع هذا الانتصار عودة وانتعاش للروح القومية العربية التي كانت كفيلة بالقضاء علي المزاعم الدينية التي تحاول أن تجعل مصر جزءا من الأمة الاسلامية دون غيرها، والتي جعلت أقطاب هذا الاتجاه يقولون صراحة وبالحرف الواحد «طظ في مصر.. احنا جزء من الامة الاسلامية» - يقصد المرشد السابق للإخوان المسلمين المهدي عاكف - كان من المفترض ان تعيد مصر للمكانة وتتبوأ مصر موقع القيادة في الوطن العربي. ولماذا لم تقد مصر الأمة العربية بعد انتصار أكتوبر؟ - سياسة السبعينيات في ظل الرئيس السادات كان لها منحني آخر، ورؤية أخري، وترك لنا السادات مصر وهي مقطعة العلاقات مع كل العالم العربي. هل السبب اتفاقية كامب ديفيد؟ - بالطبع.. هذه الاتفاقية عليها الدور الأكبر في ذلك، هذه المرحلة ما بعدها جعلت مصر عرضة للتأثير بأي اتجاهات اخري بديلة، وأصبحت مصر تبحث عن هوية اخري لأنه قيل لنا إننا لسنا عربا. إذن من نحن؟ - وقتها بدأت مصر تبحث عن هويتها، ظهرت أفكار تقول: اننا متوسطيون ننتمي للبحر الأبيض المتوسط، وأننا لسنا عرباً وليس لنا علاقة بالاسلام.. وكان هذا طرح لويس عوض، ومن ضمن هذه الاشياء الغريبة أن مصر انفتحت تماما امام التأثيرات الوهابية المتطرفة، وساعد في ذلك العلاقات الوثيقة التي كانت بين الرئيس السادات في ظل حكم الملك فيصل والتي جعلت السعودية تمول الكثير من الحركات الاسلامية الوليدة في مصر، والتي كانت تنتمي الي نوع من الاسلام غريب علي مصر، قادم من صحراء الجزيرة العربية. ولماذا شجعت مصر هذا الاتجاه؟ - كان هناك تصور - خطأ - أنها بذلك يمكن أن تقف رادعة ضد الاتجاهات اليسارية والناصرية والاشتراكية ولم يكن السادات يعلم ان من يدعمهم سيقضون عليه. في حادث المنصة؟ - طبعاً.. هذا «الجني» الذي اطلقه هو بنفسه، انقلب عليه، حيث لم يستطع أن يتمكن اعادته الي «القمقم» مرة ثانية، ظل هذا الاتجاه يتوغل حتي عادت القومية العربية قوية تعبر عن نفسها في ميدان التحرير في ثورة 25 يناير. لكن نحن تحولنا الي طريق «الجني» مرة ثانية؟ - لا، عليك ان تفرق ما بين بداية 25 يناير والوضع بعد ذلك، 25 يناير في شرارتها الاولي لاقت الترحيب والتعاطف والدعم في جميع ميادين الوطن العربي تهتف باسم ثورة 25 يناير وتدعمها، ورأينا متظاهرين في الاردن ينشدون بلادي بلادي. وما دلالة ذلك؟ - الدلالة ان عروبة مصر لا تموت.. وما يحدث الآن في الشارع ضد اسرائيل. لكن التيار الديني يعود بقوة علي طريقة السبعينيات؟ - ما حدث من الاسلاميين - وأنا اتحفظ علي هذا القول: - لأننا كلنا اسلاميون، نحن لسنا يهود ولا كفرة، نحن اسلاميون مثلهم بالضبط.. لكن هناك فرق بيننا وبينهم. وما هو هذا الفرق؟ - الفرق اننا لا نستخدم الدين من أجل أهداف سياسية، وهؤلاء الذين يستخدمون الاسلام وما فعلوه - أو ارادوا ان يفعلوه - بالثورة، وأن يسطو عليها، ويحركوها لحسابهم، وينزلون ميدان التحرير، وكأنهم هم الذين قاموا بالثورة، بينما نعلم جميعاً أنهم كانوا بعيدين علي الثورة، ولم ينضموا اليها الا بعد قيامها، ما حدث منهم هذا يثبت عروبة الثورة. كيف؟ - هم عندنا شاهدوا القومية العربية، قرروا ان يتصدوا لها، ويهتفون «اسلامية.. اسلامية» كما قالوا، لكن ما يحدث اليوم بعد الحدود مع اسرائيل وما حدث فيها يثبت ان الحس العربي في مصر مازال قويا، وهو المحرك الرئيسي للمشاعر والوجدان والهوية المصرية. إذن مصر مازالت في الجسد العربي؟ - ولا يستطيع أي تيار «سلخها» من الجسد العربي، وحتي ما استمرت هذه المحاولات عقود، كما حدث من أول السبعينيات وحتي بداية الألفية الثانية. بما أننا وصلنا الي 25 يناير.. كيف تري المشهد السياسي حالياً؟ - المشهد السياسي اليوم «ملتبس» وأنا لا أقبل أبداً ما يقال من الآن كل الثورات حدث بعدها فترة سيولة والأشياء لم تكن الامور واضحة، لأن هذه فترة انتقالية والمراحل الانتقالية التي تأتي بعد الثورات حساسة جداً وخطرة جداً، وما لم ننتبه الي ذلك، فمن الوارد ان تجرفنا بعيداً جداً عن الثورات. وإلي أين قد تذهب بنا هذه السيولة؟ - عد الي الثورة الفرنسية تجدها انجرفت - بتأثير السيولة وقتها - الي الانحراف عن مبادئ الثورة التي قامت من أجلها «المساواة والإخاء والحرية» وتحولت الثورة الفرنسية من ذلك الي بحور الدم، والاتهامات المتبادلة والاغتيالات وغيرها من الأشياء التي عرفت في التاريخ تحت عنوان: «عهد الارهاب». ومتي جاء عهد الارهاب هذا؟ - جاء بعد الثورة الفرنسية، ولم تعد فرنسا الي صوابها الا بعد 18 سنة، هل يريدون ان يحدث نفس الشيء هنا؟ هل يريدون ان تظل الامور في حالة «فوران» هكذا بلا ضابط ولا رابط وبلا أمن في الشارع وبلا طريق واضح يحدد لناطريق المستقبل وأن نظل منشغلين فقط بالاتهامات والاتهامات المتبادلة، والمحاكمات والبث التليفزيوني لها ومن الذي مرض في السجن، وما نوع الطعام الذي يأكلونه في السجن. هل تري أن هذا اضاعة للوقت؟ - اضاعة لكل شيء، هذه تفاهمات ولغو وعبث، نحن لدنيا الآن مهمة تاريخية، وعلينا أن نشرع فيها فوراً، وليس غداً. ما هي هذه المهمة؟ - إعادة بناء الدولة.. لماذا لم تبدأ عملية البناء حتي اليوم، أين الدستور؟ مرت 7 أشهر كانت كفيلة بعمل 7 دساتير! ولماذا لم يكتب دستورا حتي الآن؟ أين رئيس الجمهورية؟ ولماذا تظل هذه الدولة حتي اليوم بلا رأس، لدينا المرشحون وبرامجهم وأنا اسأل لماذا لم ننتخب لهذه الدولة رئيسا؟ سيأتي الرئيس بعد انتخابات مجلس الشعب؟ - ومن قال لك أنا مستعدون لهذه الانتخابات، هناك شيء غريب وخطر، وما لم نبدأعملية البناء فوراً، أحذر أننا سنسير الي طريق كله مخاطر. والماضي؟ - الماضي لا نتركه، ونحاسب من أخطأ، وهذا يسير في اتجاه ونترك القضاء يعمل، ولكن علينا ان نتحرك نحو المستقبل، المستقبل ينتظرنا ونحن لا نريد أن نذهب اليه، وكأننا نفضل الماضي والانشغال به، وكأننا نمشي الي الأمام ونحن ننظر للخلف. وما النتيجة إذا ما استمر هذا الوضع؟ - أي وضع؟ أننا نسير للأمام ورأسنا ينظر للخلف؟ - هنلبس في حيطة! وهذا مشهد لا يسر اطلاقاً ومقلق.