شهد العالم ردود أفعال متعددة تجاه الاتفاق النووى الإيرانى والدول الست الكبرى، الذى يقضى بتخفيف النشاط النووى الإيرانى وخضوعها تحت المراقبة الدولية، فى مقابل رفع الدول الست العقوبات المفروضة على إيران منذ 12 سنة مجتمعة، توالت ردود الأفعال العالمية تجاه هذه الخطوة. فهناك دول أعربت عن قلقها مثل إسرائيل، وهناك دول أخرى رحبت مثل الولاياتالمتحدة والسعودية وتركيا وروسيا، والبعض الآخر أبدى تحفظه مثل فرنسا، إلا أن ذلك لم يمنع الأطراف المتفقة عن المضى فى وضع اللمسات المبدئية لاتفاق تاريخى فى المستقبل كما وصفه الرئيس الأمريكى أوباما. والسؤال الذى يطرح نفسه بعد المعارضة الشديدة التى لاقاها الاتفاق فى أروقة الكونجرس وبين أعضائه هو: هل هذا الاتفاق المبدئى ملزم للأطراف فى تنفيذه؟ وهل اتخذ الشكل القانونى الكامل والذى يخضع فى بنوده للقانون الدولى؟ فى البداية هذا الاتفاق ليس اتفاقا كاملا ولكنه بمثابة مذكرة «إطار»، فقط أى أنها لم تتخذ بعد الشكل القانونى الدولى، إلا أن محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيرانى يعتبره اتفاقا دوليا بحضور الأطراف الدولية ومندوبين عن مجلس الأمن الدولى ووكالة الطاقة الذرية الدولية. ولكن هذا الاتفاق لم يخضع بعد للقانون الدولى، كما أنه يواجه تحديات عديدة على رأسها موافقة تمريره من الكونجرس بالإجماع وهو أمر غاية فى الصعوبة حيث جمع السيناتور توم كوتون 47 توقيعاً من الجمهوريين بمعارضة هذا الاتفاق وتحويله إلى معاهدة دولية فى المستقبل، إلا أن أوباما وإدارته بالإضافة إلى الدول الخمس الكبرى لديهم النية المبيتة فى إرسال هذا الاتفاق إلى مجلس الأمن الدولى للحصول على الموافقة وهو ما يمثل تعدياً صارخاً على سيادة الشعب الأمريكى، كما وصفها السيناتور بوب كوركر رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى الكونجرس والذى تلقى ردا صارخا من رئيس فريق الإدارة الأمريكية ماك دونوف يقرر هذه الخطوة استنادا إلى المادة السابعة من ميثاق الأممالمتحدة ويسمح للدول الست الكبرى بذلك دون الرجوع إلى برلماناتها للموافقة على إبرام أي اتفاقات خارجية. أسباب الاتفاق أقبلت الدول الست الكبرى وخاصة الولاياتالمتحدة العدو الأول لإيران على عقد الاتفاق المبدئى حول تخفيض القدرات النووية الإيرانية ليس كما يعتقد البعض فى تحويل إيران للشرطى الجديد فى منطقة الشرق الأوسط أو حتى استبدال المشروع الفارسى بدلا من التركى العثمانى والأمريكى اللذين أفشلتهما مصر، وإنما يرجع عقد هذا الاتفاق المبدئى بين الأطراف إلى أسباب أخري يقدرها الغرب هي: السبب الأول: يرى الكاتب و المحلل فرانك بروسيدا فى مقاله «الانفجار» فى مجلة «فورين بوليسى» أن الدول الست الكبرى فضلت التفاوض والاتفاق بدلا من المواجهة العسكرية، لأن الاختيار الأخير كان من شأنه أن ينتج عنه دمار شامل للمنطقة، وهو ما سيلحق به كارثة إنسانية تودى بحياة عشرات الآلاف من المسلمين فى إيران وغيرها من البلاد حليفة الولاياتالمتحدة من دول الخليج وأوروبا، حيث إن السيناريو المتوقع فى هذه المواجهة العسكرية أن تضرب الولاياتالمتحدة وحلفاؤها المنشآت الإيرانية النووية وعلى أثر ذلك ترد إيران بأسلحتها النووية على الضربة سواء بشكل مباشر أو تضرب إسرائيل وتسلط الجماعات المسلحة بالقيام بعمليات إرهابية داخل إسرائيل والولاياتالمتحدة نفسهما، بالإضافة إلى ضربات إيرانية انتقامية لكل القواعد العسكرية الأمريكية فى العراقوأفغانستان، فضلاً عن ضرب حلفاء الولاياتالمتحدة مثل دول الخليج وأوروبا. السبب الثانى: هناك تصور آخر للكاتب ماثيو كرونينج فى مقاله «حان الوقت للهجوم» فى مجلة فورين أفيرز يضع فيه تصوراً مكملاً لمشهد الحرب المدمرة التى ستدفع فيها الولاياتالمتحدة ثمنا غاليا كما يصفها المحلل كرونينج وهو، أنه فى حالة إعلان الولاياتالمتحدة الحرب على إيران بدلا من التفاوض، حيث إن الأخيرة لديها حلفاء مثل روسيا والصين اللتين لن تتركاها فى مهب الريح فى حالة إعلان الحرب، وهو الأمر الذي تعمل له الولاياتالمتحدة ألف حساب حيث يمكن لهاتين الدولتين العظمتين أن تعزلا الولاياتالمتحدة اقتصاديا ودبلوماسيا، وهو الأمر الذى يعرض الاقتصاد ليس فقط الأمريكى بل العالمى للخطر. السبب الثالث: فى حالة الهجوم من الولاياتالمتحدة وحلفائها على إيران، يمكن للأخيرة غلق مضيق هرمز المسئول عن حركة 20% من نقل البترول ومواد الطاقة و تداولها من الخليج ووسط آسيا إلى أوروبا والولاياتالمتحدة، مما له نذير الشؤم عليهم فى رفع أسعار الطاقة وتعثر وصولها. أما السبب الرابع: فيحلله الكاتب فرانك بروسيدا فى الفورين بوليسى فى أنه فى حالة نشوب الحرب بين الولاياتالمتحدة وحلفائها ضد إيران، واستخدام الأخيرة السلاح النووى فى الانتقام من إسرائيل، فإن الأخيرة تمتلك 200 سلاح نووى يتشكل بين طائرات وصواريخ باليستية وقطع بحرية، وهو ما يمثل قوة لا يستهان بها إذا استخدمتها إسرائيل ضد إيران فستسحق الوجود الإيرانى من على وجه الأرض، وهو ما يحدث الدمار الشامل لمنطقة الشرق الأوسط. السبب الخامس: هو خوف الولاياتالمتحدة والدول الخمس الأخرى من تمويل و دعم إيران ونقلها للتكنولوجيا النووية إلى الجماعات المسلحة مثل حماس وحزب الله والحوثيين فى اليمن وغيرهم فى أفغانستانوالعراق والشيعة فى السعودية البحرين، وبالتالى استخدام هذه الجماعات لهذا السلاح الخطير فى هجماتها داخل البلاد المذكورة وضد إسرائيل، ما ينذر أيضا بالدمار الشامل داخل وخارج الحدود فى دول الشرق الأوسط. السبب السادس: هو تورط الولاياتالمتحدة وحلفائها من الدول الخمس الكبرى و غيرها فى حربهم على تنظيم داعش فى سورياوالعراق، وهو الأمر الذى لم يلق صدى فى كبح جماح هذه الجماعة والذى يلقى انتقادا شديدا لمختلف الأوساط الأمريكية ضد إدارة أوباما، الذى آثر السلامة وخضع للتفاوض مؤخرا مع الجانب الإيرانى، أيضا بسبب الضغوط الاقتصادية التى تتعرض لها الولاياتالمتحدة جراء فتح العديد من الجبهات فى نفس الوقت فى العراقوسورياوأفغانستان، ما يغل أيديها عن فتح جبهة جديدة مدمرة وتمثل تحديا بين كل الأطراف فى الشرق الأوسط. انقسام غربي بين سيناريوهات "التسلح" و"التعايش" "تعويم" الاتفاق الإيراني بعد غرق الدول العربية فى أزماتها الداخلية هناك مقالة شهيرة للأدميرال مايكل مولان، رئيس أركان الجيش الأمريكى مفادها «أن تسلح إيران بالقنبلة النووية يحفز جيرانها من الدول على تسليح نفسها هى الأخرى بنفس السلاح، جراء تعرضها للخطر النووى الإيرانى ولإحداث توازن القوى فى المنطقة». جاءت هذه المقولة لمولان فى إحدى مناقشاته مع رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس العموم الأمريكى، بالإضافة إلى تصريحات الرئيس أوباما نفسه الذى وصف السلاح النووى الإيرانى بأنه خطر غير عادي ويضر باستقرار المنطقة والعالم. وتباينت آراء المتخصصين حول أدوار الولاياتالمتحدة والدول العربية فى الشرق الأوسط بناء على امتلاك إيران للسلاح النووى، ووضعوا تصوراتهم كالتالي: السعودية: من بين الخبراء جون بايك المحلل فى شئون الأمن الدولى ورئيس موقع منظمة الأمن العالمى الذي يري أنه بإمكان السعودية شراء صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية جاهزة من باكستان حليفها العسكرى، دون الحاجة إلى نقل التكنولوجيا النووية إليها وعمل برامج تخصيب اليورانيوم، على سبيل المنافسة الجيوسياسية بينها وبين إيران فى المنطقة. وذكر البروفيسور جريجورى كوبلمنتز فى جامعة جورج ماسون فى تقريره حول الاستقرار الاستراتيجى فى الحقبة النووية الثانية، مسارعة الدول العربية للدخول فى سباق التسلح النووى مثلما فعلت إيران لإحلال توازن القوى فى المنطقة، وأنه على الولاياتالمتحدة أن تعقد محادثات ومشاورات ثنائية ومتعددة الأطراف مع القوى النووية الجديدة فى العالم مثل روسيا والصين والهند وباكستان، التي جعلت من منطقة جنوب آسيا تمثل خطرا استراتيجيا قابلا للانفجار فى أي وقت، خاصة باكستان التى حققت أسرع معدل فى برنامجها النووى على مستوى العالم، حيث من المقرر أن تمتلك 200 جهاز نووى بحلول عام 2020. العراق و أفغانستان: على الرغم من ادعاء الولاياتالمتحدة والأدميرال مايكل مولان فى أحد تقاريره للإدارة الأمريكية الذى أكد فيه عام 2010 مبادرة كل من العراقوأفغانستان فى امتلاك السلاح النووى وذلك خلال حقبة الرئيس السابق جورج دبليو بوش، الذى دمر العراق من مجرد شكوكه فى امتلاك صدام حسين للأسلحة النووية والكيماوية، ظلت حتى ذلك التاريخ مجرد شكوك أيضا. إلا أن هيلارى كلينتون فى حملتها الانتخابية الرئاسية فى 2008 طالبت الإدارة الأمريكية بتوفير الغطاء والمظلة النووية للدول العربية فى مقابل امتلاك إيران للقنبلة النووية، حتى تكون أي نشاطات تسليح نووى أو غيره تحت مرأى ومسمع من الإدارة الأمريكية. مصر: كانت هناك دول عربية من بينها مصر خاضت بعض الخطوات الخجولة تجاه امتلاك التكنولوجيا النووية ولكنها لم تسفر عن امتلاك السلاح النووى.. أو الاقتراب منه. وإذا نظرنا للمبادرة التى بادرت بها الولاياتالمتحدة فى الإفراج عن الأسلحة التى كانت من المفترض إرسالها إلى مصر وتم إرجاؤها، ما هو إلا عمل من شأنه شمول مصر للمظلة النووية أو التسليحية الأمريكية، فى ظل سماحها لإيران بامتلاك برنامج نووى لتخصيب اليورانيوم حتى وإن كان على فترات طويلة الأمد. سوريا: على الرغم من تعرض سوريا فى عام 2007 لضربات إسرائيلية لأحد المواقع التى ادعت إسرائيل أنها تقوم بنشاط نووى، إلا أنها لم تثبت صحة ادعائها حتى الآن. ليبيا: تعرضت أيضاً لهجمات من المجتمع الدولى فى 2002 جراء ادعاء أن نظام معمر القذافى فى سبيله لإنتاج سلاح نووى، إلا أنه ادعاء أيضا لم تثبت صحته حتى الآن. و هنا نلاحظ أن الولاياتالمتحدة لم تقدم على الاتفاق النووى الإيرانى مع الدول الخمس الكبرى، إلا بعد ضمان أن باقى الدول العربية المعنية بإحلال توازن القوى فى المنطقة وشملتها مخاوف ماضية فى إنتاج السلاح النووى مثل العراقوسوريا وليبيا كلها تعيش فى كوارث داخلية، ليس لديها الإمكانات أو الخطط المستقبلية فى تنفيذ برامج نووية قبل إحلال الأمن والاستقرار فى بلادها أولا. هناك تصور آخر يطرحه الكاتب فرانك بروسيدا فى مجلة فورين بوليسى يقضى بمبدأ تعايش العرب مع عدوهم النووى الإيرانى الجديد فى السنوات القادمة، مثلما استطاع العرب التعايش مع عدوه الأكبر إسرائيل التى تمتلك الأسلحة النووية بشكل مؤكد. روشتة الشرق الأوسط ويقدم النصيحة هذه المرة يوشكا فيشر وزير الخارجية الألمانى الأسبق فى مقاله فى مجلة «ذا ورلد بوست» بقوله «إن الشرق الأوسط الجديد يحتاج إلى الدبلوماسية والجلوس إلى طاولة التفاوض مثلما حدث مع إيران، لحل مشكلاته أى الشرق الأوسط ودول، لأن التدخل العسكرى لا يحل المشكلة، ويضيف فيشر، أن دول الشرق الأوسط بحاجة إلى اتفاق أمنى يشمل كل الأطراف، يخدم ويحقق مصالح المتفقين، وهذا الاتفاق والتفاهم سيظل الشرق الأوسط شعلة اللهب المشتعلة دائما فى العالم». المحللون يشرحون موقف طهران: إيران تقبل الاتفاق جراء الضغوط الاقتصادية ووجود مواقع سرية مثلما كانت هناك أسباب لقبول الدول الست الكبرى للاتفاق النووى الإيرانى كانت هناك أسباب مماثلة على الجانب الآخر لقبوله بعد تحد دام لأكثر من 12 عاما للقوى الدولية وهى: أولا: يقول الكاتب والمحلل السياسى ماثيو كرونينج فى مجلة الفورين بوليسى إن الضغوط الاقتصادية من جراء العقوبات الاقتصادية فى مختلف المجالات والمفروضة على إيران منذ 12 عاماً بناء على نشاطها النووى، وارتفاع معدلات البطالة وانخفاض أسعار النفط، فضلا عن التكاليف الباهظة للتكنولوجيا النووية وتخصيب اليورانيوم، أدى إلى إعادة النظام الإيرانى للنظر فى التساهل و التراجع فى طموحاتها النووية فى سبيل رفع العقوبات الاقتصادية مجتمعة مرة واحدة، وذلك لإحداث انفراجة على الشعب الإيرانى الذى بات يعانى من جراء هذه العقوبات المفروضة عليه. ثانيا: تجنب النظام الإيرانى الحالى وحكومته للانتقادات التى يمكن أن توجه له سواء من قوى سياسية أخرى، أو من مرشحين رئاسيين سابقين مثل أكبر هاشمى رافسانجانى ومير حسين موسافى، واللذين سيهاجمان بدورهما النظام القائم فى حالة حدوث هجوم عسكرى من الولاياتالمتحدة وحلفائها ضد إيران، جراء استمرار عناد النظام الحالي وتحديه للقوى العالمية الكبرى. ثالثا: وصول إيران إلى المرحلة المطلوبة فى تحقيق أهدافها فى برنامجها النووى فى نهاية الطريق الصعب الذى خاضته القوى الفارسية عبر السنوات الماضية مع القوى الدولية، بما يضمن لها استمرار نظامها الذى يقوم على أساس الثورة الإسلامية، ومنحها الثقل الدولى الكافي الذى يمنع الولاياتالمتحدة من الإقدام على تكرار مشهد الانقلاب ضدها الآن مثلما فعلت فى مساعدة الثورة الإسلامية فى قلب نظام حكم الشاه فى 1979. تصورات المحللين على الرغم من أن إيران تبدو مرنة فى الموافقة على تخفيض نشاطها النووى بشكل ظاهرى وعلنى، فإن بعض المحللين لهم رأى آخر مثل الكاتب ماثيو كرونينج، فى أن ما ظهر من مفاعلات ومنشآت نووية سواء فى «كوم أو ناتانز» وغيرهما ليس فقط هو كل مواقع النشاط النووى، بل إن هناك مواقع سرية خفية تحتوى على الأسلحة المدمرة والغائبة عن أعين الولاياتالمتحدة والأجهزة المخابراتية الغربية، والدليل على ذلك أن إيران كانت بدأت العمل فى هذين الموقعين دون وقوعهما فى الوهلات الأولى أمام أعين مفتشى وكالة الطاقة الذرية. وهناك تصور آخر يفترض أن تنتشر مواقع الأنشطة النووية الإيرانية وسط جموع الجماهير و مواقع الأنشطة المدنية اليومية، والتى تكبل أيدى أية قوة جراء حدوث كارثة إنسانية فى حالة مهاجمتها وضربها. وتصور ثالث يقضى بانتشار النشاطات النووية فى العديد من المواقع عبر إيران على مساحات واسعة تحت الأرض ومحمية بواسطة غطاء جوى عسكرى.