عندما يتعرض أي فنان كبير لأزمة صحية نكتشف وقتها فقط أهميته وقيمته. هذه هي العادة المصرية التي نحيا عليها منذ سنوات طويلة. الذي يجعلنا نطرح هذه القضية تلك الأزمة الصحية التي تعرض لها الموسيقار الكبير عمر خيرت قبل صعوده لخشبة المسرح بساقية الصاوي، حيث أدت مشاكل بفقرات الفهم عدم قدرته علي تحريك يده اليمني، وندعو له بالشفاء العاجل حتي يعود لجماهيره العريضة- لكننا نعود للأزمة الحقيقية التي يعيشها الفنان في مصر، وهي شديد الاهتمام بحالته الصحية بحثاً عن الإثارة، وهو ما يظهر في تناول كل جريدة أو موقع إلكتروني للحدث. حيث نجد أن كل زميل صحفي يتناول مرضه علي حسب المعلومة التي ترد إليه بعيداً عن كونها صحيحة أم غير ذلك. لكن علي المستوي الإبداعي، وتناول الفنان من حيث الموهبة وما يقدمه للساحة فهذا أمر يتزيل الاهتمام. والفنان الكبير عمر خيرت من أكثر الناس الذين يتعرضون لعملية تجاهل كبيرة من قبل وسائل الإعلام. ولو أجرينا إحصائية بين الأخبار والمتابعات الخبرية التي تنشر عنه، وبين ما ينشر عن بعض الأقزام في الوسط الغنائي سوف نكتشف المهزلة. لكن في النهاية الإبداع الحقيقي هو الذي يبقي لعشرات ومئات السنين بدليل ان السنباطي وعبدالوهاب والموجي وبليغ وغيرهم رحلوا منذ سنوات ومازالت أعمالهم تغني، في الوقت الذي نجد فيه أن ملحنين من أنصاف المواهب ظهروا منذ سنوات قليلة، واختفوا وهم علي قيد الحياة. الأزمة الحقيقية لدينا أن المبدع الحقيقي لا يحصل علي كامل حقه بسبب ما يحدث علي الساحة الفنية من إهمال للرموز، وإهمال لمن أحدثوا انفلاتاً حقيقياً في تاريخنا الفني، والغنائي. في حين ان أوكا وأرتيجا وكل من هم علي شاكلتهما هم الآن الذين يتحدثون باسم الغناء المصري. رغم ما يقدمونه من هلس غنائي، وحالة الإفساد المتعمد للذوق العام. وبالتالي علينا في كل لحظة ان ندعو للموسيقار الكبير عمر خيرت بالشفاء العاجل حتي يعود ليس فقط من أجل موسيقاه، ولكن ليعود مدافعاً بنغمه وموسيقاه عن الريادة الموسيقية والغنائية المصرية.. وهذا ليس بالكثير علي فنان أفني عمره، لكي يقدم الموسيقي الجادة، ولكي يقول إن مصر لديها مستوي موسيقي عالمي. فهذا الفنان الكبير يضم مشواره الكبير محطات مهمة لابد من عرضها، وهو في محنته حتي يعي الشعب انه لم يعد لدينا الكثير من المبدعين. أحد أهم المحطات في تاريخ هذا الفنان هو اختياره في عام 2008 ليكون نجم حفل تسليم قيادة الاتحاد الأوروبي من سلوفينيا إلي فرنسا، وفي هذا الحفل قاد «خيرت» اثنين من أكبر أوركسترات أوروبا هما أوركسترا سلوفينيا، والأوركسترا الفرنسي بالاشتراك مع مجموعة من العازفين المصريين، وقدم خيرت مجموعة من أهم أعماله، ونال الحفل حفاوة كبيرة علي المستوي الجماهيري والمستوي الفني من قبل موسيقيين أوروبيين، لانهم وجدوا في أعماله مزجاً بين دفء الموسيقي الشرقية، وبين خيال وعمق الموسيقي الغربية. وفي مصر يحسب لعمر خيرت انه أول موسيقي مصري يكسر أسطورة النجم المغني أو المطرب، فدائما في مصر والوطن العربي تكون الحفلات كاملة العدد للمطرب فقط، لكننا لم نجد يوميا ان الحفلات تكون كاملة العدد لمؤلف موسيقي. عمر خيرت فقط هو الذي صنع هذا، بل والأكثر من ذلك ان الإقبال الجماهيري جعل الأوبرا تقدم له ثلاث حفلات متتالية نظراً للإقبال الجماهيري والتزاحم من أجل نيل تذكرة في حفلاته، بل ان الأوبرا أجبرت علي إدخال أنظمة جديدة لشباك التذاكر، أهمها وجود ماكينة خاصة يحصل من خلالها راغب الحضور علي تذكرة برقم مثل النظام الذي يحدث في البنوك، بحيث يذهب العميل لشباك التذاكر عندما يظهر رقمه علي الشاشة. عمر خيرت يحسب له أيضا أنه جعل المواطن العادي يستسيغ، ويتذوق الموسيقي التي تقدم من خلال الأوركسترا فهذا الشكل لم يكن له تلك الشعبية قبل عمر خيرت. ويحسب لهذا الفنان أيضا ان هناك أسماء كثيرة عرفها الجمهور من خلال حفلاته منهم نسمة عبدالعزيز عازفة المارمبا ويحيي غنام عازف الجيتار والذي تحول لبعض الوقت لمغني، وكون فرقة تحمل اسمه، وغيرهما من العازفين. علي صعيد الموسيقي التصويرية في الدراما والسينما قدم «خيرت» أشكالاً مختلفة، تنوعت بين الغوص في البيئة سواء كانت ريفية أو صعيدية إلي ان وصل إلي شكل جديد في مسلسله الأخير «دهشة» حيث قدم شكلاً كلاسيكياً في عمل تدور أحداثه في قلب صعيد مصر.. وبرر هذا بأن العمل مأخوذ عن «الملك لير» لشكسبير، وهو بهذا الشكل الموسيقي أراد ان تكون رسالة أكثر انتشارا وأكثر عالمية من ان يستخدم تيمة موسيقية صعيدية بآلات شعبية. الأهم أيضا في مشوار عمر خيرت انه في السنوات الخمس الأخيرة، كان يضع موسيقي المسلسلات علي طريقة السينما. بمعني انه يضع الموسيقي علي مشهد مشهد، وهو ما يعني ان المسلسل الذي يقدم في 30 حلقة، يساوي 30 فيلماً سينمائياً، وهذا الأمر يؤكد ان هذا الرجل يهتم بالإبداع أكثر من اهتمامه بأي شيء آخر وأولهم صحته. فأي مؤلف موسيقي آخر يتعامل مع الدراما وفق بعض التيمات أو قيمة واحدة ويقوم بطرحها علي الأحداث. هذا هو الفارق بين عمر خيرت، وبين آخرين حاولوا القفز علي عالم الموسيقي التصويرية ممن ظهروا من خلال ساحة الكاسيت. هذا هو عمر خيرت الفنان الذي غير مقاييس كثيرة في عالم الموسيقي والغناء. والجميل في هذا الفنان ان رأيه واضح وصريح في الأصوات الموجودة، وهذا يظهر من اختياره المطربين الذين تعاون معهم منذ ظهوره، فهو لم يتعامل إلا مع الأصوات الجادة مثل علي الحجار ومحمد الحلو وريهام عبدالحكيم، في النهاية حاول البعض ان يصنف «عمر خيرت» علي ان إبداعه مخصص للصفوة، ولكنه أثبت أن الفن الحقيقي لا يصنف ولا يصنع لفئة، ويتجاهل أخري. وهذه هي قيمة الفنان الحقيقي.