وجه قائد الجيش اللبناني العماد جان قهوجي، أخيراً تحذيراً قال فيه: "داعش تريد أن يكون لها ممر للبحر المتوسط عن طريق إقليم عكار اللبناني، ووسيلتها لذلك إشعال الفتنة في الإقليم عبر خلايا نائمة". رأى البعض هذا التحذير مبالغة، ولكن الأحداث تثبت أن المؤامرة الداعشية هي في طور التنفيذ، فالتوتر عاد إلى طرابلس عاصمة الشمال اللبناني بعد أن ظن أهلها أن الدولة قادرة على فرض الأمن بها، ولكن الجيش الذي فرض الأمن بالمدينة هو نفسه أصبح هدفا شبه يومي لهجمات المسلحين. لكن الأخطر هو انتقال التوتر إلى إقليم عكار القريب من طرابلس والواقع في أقصى شمال لبنان، الذي يوصف بخزان السنة لأنه أكبر تجمع سكاني سني في البلاد، ولكنه أيضا الخزان البشري للجيش اللبناني، حيث ينتمي نسبة كبيرة من جنود الجيش له نظرا للفقر المدقع بالإقليم الذي يدفع أبناءه للتطوع بالجيش باعتبار ذلك مصدرا رئيسيا للدخل في ظل البطالة المنتشرة. يبدو أن هذا الإقليم أصبح هدفا لمؤامرة واضحة من التنظيمات المتطرفة التي تحاول أن تستغل الفقر والحرمان من الخدمات لإشعال فتنة بين الإقليم وبين الجيش اللبناني. تارة عبر تشجيع الانشقاقات من جنود ينتمون إلى عكار وتارة أخرى بالضغط على أهالي العسكريين المختطفين ونسبة كبيرة منهم من إقليم عكار، وتارة ثالثة عبر استهداف الجيش بهجمات مسلحة من الإقليم آخرها إطلاق نار على حافلة تابعة للجيش فجر اليوم، مما أدى إلى استشهاد جندي لبناني ينتمي إلى الإقليم أيضا. فعكار غنيمة مهمة بالنسبة لجبهة النصرة وتنظيم داعش، ليس فقط لأنه خزان سني يتمنون من خلاله اشعال الفتنة أن يستفيدوا من ثروته البشرية مثلما فعلوا في العراق، ولكن الأهم أن عكار هو أضعف نقطة جغرافية وبشرية يمكن لداعش أن تصل عبرها إلى البحر. ليصبح لدولتها الموهومة وخلافتها المزعومة ميناء على البحر المتوسط، كما حذر قائد الجيش اللبناني. فسهل عكار كان طريقا تاريخيا يصل ساحل بلاد الشام الذي تعزله الجبال إلى الداخل السوري، حيث توجد مراكز الشام الحضارية والتجارية حمص وحماة وبعدها دمشق جنوبا وحلب شمالا، كما أن الجبال التي تفصل الساحل السوري واللبناني عن الداخل كلها مسكونة بأقليات اشتهرت ببأسها وصلابتها مثل الجبال التي سكنتها منذ القدم، وهي أقليات تتخوف من داعش أشد الخوف، بعد أن رأت وحشية هذا التنظيم مع الأيزيدين والمسيحيين والشيعة والأكراد السنة بل حتى مع مخالفيهم من الإسلاميين ورفاق الإرهاب في جبهة النصرة. ولا تكتفي هذه الأقليات والطوائف ب"عض أصابع الخوف"، بل إن مصادر مطلعة عدة تؤكد لوكالة أنباء الشرق الأوسط أن هذه الأقليات مثل الدروز والمسيحيين في لبنان يتسلحون تأهبا لأي اختراق داعشي فضلا عن أن حزب الله يتلقى مئات من طلبات التطوع من الطائفة الشيعية للتأهب لقتال داعش، مما يجعل من سلاسل الجبال هذه حاجزا بشريا وجغرافيا يصعب اختراقه ويحارب بوعورة تضاريسه مع أهله في مواجهة "الدواعش". ففي سوريا يتحصن العلويون في الجبال التي تحمل اسمهم وتفصل بين الساحل السوري الذي كان قديما تسكنه أغلبية سنية وبين الداخل السوري الذي اصبحت داعش تسيطر على أجزاء كبيرة منه. أما في لبنان فالموارنة يتحصنون في جبالهم الشاهقة في الشمال وجبل لبنان يليهم الدروز في الجزء الجنوبي من جبل لبنان ثم الشيعة في منطقة جبل عامل بجنوب لبنان، وبالتالي تصبح الثغرة الجغرافية والطائفية الوحيدة المتاحة أمام داعش هو إقليم عكار الذي همش طويلا من النخبة السنية اللبنانية الحاكمة قبل أن يهمش من الدولة اللبنانية متعددة الطوائف. زاد من عزلة إقليم عكار أنه كان تاريخيا مرتبطا بسوريا، وضمه الفرنسيون مع أقاليم أخرى إلى لبنان عندما أسسوا دولة لبنان الكبير عام 1920 بهدف أن يتجبنوا حدوث مجاعة في جبل لبنان (معقل الموارنة والدروز) مثل تلك التي حدثت خلال الحرب العالمية الأولى لأن المناطق الجديدة التي ضمها الفرنسيون كانت مناطق زراعية تستطيع زراعة الحبوب عكس الجبل. بينما حدثت صحوة لكل أقاليم وطوائف لبنان المهمشة مثل الجنوب الشيعي الذي تحول من منطقة مهمشة وفقيرة إلى واحدة من أكثر مناطق البلاد أمنا وتعميرا، في المقابل ظل إقليم عكار خارج خطط واهتمامات الدولة اللبنانية حتى بعد إتفاق الطائف الذي منح السنة وضعا سياسيا واقتصاديا مميزا، ولكن النخبة السنية اللبنانية لا تتذكر الإقليم إلا أوقات الحشد الطائفي، بينما لا تتذكره الدولة اللبنانية إلا أوقات الحاجة إلى متطوعين جدد في الجيش. ولكن هذا الإقليم على رغم هذا التهميش التاريخي والتحريض الطارئ مازال متمسكا بالدولة اللبنانية، ومازال أكبر خزان للجيش اللبناني حصن بلاد الأرز الأخير.. وكأن لسان حاله يقول "بلادي وإن جارت على عزيزة .. وأهلي وإن ضنوا على كرام".