يتذكر زملائي الصحفيون المخضرمون معركتي مع الرئيس حسني مبارك- ونظامه- حول مشروع توشكي.. وبعض هذه المعارك كان بسبب المياه الجوفية، وهل نلجأ إليها لري أراضي المشروع، أم نعتمد علي مياه النيل.. ومن هذه المعارك أذيع علي الهواء مباشرة من التليفزيون الرسمي المصري. وبالذات معركة المياه الجوفية. يومها قلت للرئيس مبارك- علي الهواء- لماذا نسحب من خزان السد العالي.. بينما يمكننا أن نعتمد علي المياه الجوفية ونوفر تكاليف محطة الرفع العملاقة حوالي 5 مليارات جنيه وترعة الشيخ زايد حوالي 500 مليون جنيه فضلاً عن فروع الترعة.. ولكنني حذرت من أن الاستخدام غير العلمي لهذه المياه الجوفية يضر بهذا الخزان الجوفي.. وقلت إن علماء مصر اتفقوا- واختلفوا- حول حجم هذه المياه. اتفقوا علي أن هذا المخزون غير متجدد، في الغالب، لأنه خزين آلاف السنين من أيام العصر المطير القديم.. واختلفوا حول مدة إمكانية استخدامنا لهذه المياه. البعض قال إنه يكفي 500 عام حد أقصي. والبعض قال إنه يكفي 100 عام.. يومها قلت نأخذ الحد الأدني- وهو 100 عام أو حتي 50 عاماً- فإذا انخفض منسوب المياه في الخزان ويقل تدفق المياه، يمكننا بعد هذه السنوات قصرت أو طالت اللجوء إلي إنشاء محطة الرفع وحفر الترعة.. ولكن أيامها يكون المشروع قد أعطي ثماره تماماً.. ويمكننا من عائده أن ننفذ محطة الرفع ونحفر الترعة. ولكن الحكومة لم تستمع لما قلت- وكان ذلك ضمن حملة شهيرة للغاية.. ومضت تنفذ فكرة المحطة والترعة.. ربما لكي يستفيد من يريد من عمولات إنشاء وتوريد معدات المحطة العملاقة.. وأيضاً من يستفيد من حفر الترعة وتبطينها! وأتذكر هنا حواراً ساخناً للغاية بعد ذلك، فقد طلبني الرئيس مبارك لكي أسافر معه بالطائرة إلي توشكي لأري علي الطبيعة ما يجري هناك. وكان معنا الدكتور محمود أبوزيد وزير الموارد المائية أيامها.. وأعدوا لنا معرضاً لمنتجات بحيرة السد من أسماك عملاقة شدتني، فتأخرت عدة أمتار عن متابعة الرئيس.. إلي أن فوجئت بالرئيس مبارك ينادي عليَّ فلما أجبت.. بادرني ضاحكاً: تعالي خد خيارة من خيرات توشكي.. هنا صرخت بأعلي صوتي فانزعج الرئيس وهو يتساءل: فيه إيه يا طرابيلي ورددت: يا سيادة الرئيس.. هي مياه النيل وصلت إلي توشكي.. ثم أشرت إلي مجري ترعة الشيخ زايد- وكانت جافة تماماً- وأردفت: هذه الخيارة رويت بالمياه الجوفية التي سحبناها من الخزان الجوفي وعددها 90 بئراً.. وأردفت واسأل الدكتور أبوزيد.. فاستدار الرئيس مبارك وسأل الوزير.. الذي رد عليه بأن هذه المياه هي من الخزان الجوفي أي من مياه الآبار! هنا قلت: ياريس لقد بح صوتي تماماً من كثرة ما ناديت بذلك.. أي بالاعتماد- في السنوات الأولي للمشروع- علي المياه الجوفية.. فرد الرئيس بصوت منخفض: طيب.. طيب ياعباس باشا! ولكنني حذرت من السحب غير المنظم للمياه الجوفية حتي لا تنهار الآبار أو نضطر إلي تعميق معداتها أكثر وأكثر، كلما انخفض منسوب المياه. وقلت إذا كان هذا مسموحاً- ولكن بنظام- في الخزان الجوفي النوبي «الجنوبي» إلا أنه يجب الحذر أكثر في القطاع الشمالي من هذا الخزان، أي كلما اقتربنا من البحر المتوسط. ذلك أن هذا السحب- في الشمال- سيؤدي إلي توغل مياه البحر المالحة جنوباً لتحل محل المياه الحلوة.. وكان هذا من أهم أسباب توقفنا عن التفكير في تنفيذ مشروع منخفض القطارة.. لأن ذلك سيؤدي إلي تعبئة المنخفض بمياه البحر المالحة.. مما يؤثر علي أي مشروعات زراعية في المستقبل بل يمكن أن يمتد ذلك إلي الأراضي الزراعية في محافظة البحيرة وفي كل الواحات، أي الوادي الجديد. وقلت هنا إن السحب الجائر للمياه الجوفية- بالآبار- في شمال الدلتا أعطي الفرصة لمياه البحر المالحة لكي تتقدم جنوباً- وكانت منذ 50 عاماً تقف عند المنصورة.. الآن وصلت المياه المالحة إلي قرب طنطا! وقلت ذلك أيضاً في جريدة الوفد.. كما قلته في محاضرة علمية ألقيتها في مقر نقابة المهندسين بالإسكندرية.. حضرها الدكتور أبوزيد.. ويمكنكم سؤاله حول ما قلت- يومها هناك.. وبسبب هذا السحب الجائر للمياه الجوفية في شمال الدلتا انهارت هناك الزراعة البستانية أي أشجار الفواكه.. ولم يعد يمكننا إلا الزراعة الحقلية، أي النباتات قصيرة الجذور، حتي لا تصل إلي.. مستوي مياه البحر تحت الأرض في شمال ووسط الدلتا، أي نزرع الأرز والقمح والحضراوات فقط! كل ذلك بسبب نقص المياه في الترعة، في مناطق نهايات الترع.. وأيضاً بسبب الري الجائر. الآن تنشر الصحف تصريحات الدكتور حسام مغازي وزير الموارد المائية والري التي تقول- كما نشرت الصحف أمس- إن المشروعات الجديدة للاستصلاح- ومنها توشكي- تعتمد علي المياه الجوفية بنسبة 77٪ مؤكداً أن هذه المياه كافية.. وأن الدولة ستدفع 10 مليارات جنيه للآبار. بالذمة ده كلام.. أم أننا لا نتعلم من الماضي.. «يعني أحط صوابعي في الشق».. ياعالم حرام عليكم.. عودوا إلي علماء المياه الجوفية في مصر وهم كفاءات عالمية.. أم نحن بارعون.. في إهدار عشرات المليارات من الجنيهات.. ومازال الحوار مستمراً، إن كانوا يفهمون!