قبل عدة عقود من الآن كانت القرية المصرية مضرب المثل في الأخلاق والتلاحم والأمان ، لكنها لم تنج من حملة التشويه التي قادها نظام مبارك تجاه كل ما هو جميل. وإذا تابعت صفحات الحوادث ستجد حضوراً مؤثراً للقرية فيها، فما من يوم يمر دون حادث كبير بإحدي القري يزيل كل ما عرف عنها من أخلاق وتمسك بالقيم، وتجعلها تتفوق أحياناً علي المدن في الإجرام والخشونة وقلة الضمير. طالب يشعل النار في والده ثم يذهب لمشاهدة السينما، وشاب يقتل أمه من أجل الحصول علي ذهبها وأموالها، وثالث يقتل والده ويؤكد أنه تلقي أمراً بذلك من السماء، ومدرس موسيقي يتحرش بطالبات في المرحلة الابتدائية، ومجموعة ذئاب يختطفون فتاة في توك توك ويغتصبونها في الزراعات. هذه عينة من الجرائم التي باتت القرية المصرية تشهدها في المرحلة الأخيرة وتحذر بفقدانها لأعز ما تملك من قيم وأخلاق. الأمر يحتاج إلي تشخيص سريع وعلاج أسرع لذلك ذهبنا إلي الدكتور محمد المهدي أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر الذي أكد أن الصورة النمطية والمثالية للقرية تغيرت كثيراً في الفترة الأخيرة مرجعاً ذلك لعدة عوامل أهمها انتشار الفضائيات ووجود الدش في كل منزل ريفي مما غير المفاهيم لدي الأجيال الجديدة، وجعل الحديث عن الترابط الاجتماعي واحترام الكبير والحياء بلا معني ولا قيمة ولا يحرك لأحد ساكناً، كما عزز هذا الأمر سفر الكثيرين من أبناء القري إلي الخارج بحثاً عن فرصة عمل ثم عودتهم إلي بلادهم يحملون قيماً جديدة وعادات لم تألفها القري في السابق، وتمردهم علي القيم والعادات السائدة في مجتمعاتهم، حتي أنهم باتوا يتهكمون علي القيم الأصيلة التي كانوا جزءاً منها قبل السفر. المهدي يشير أيضاً إلي هجرة أعداد كبيرة من القري إلي المدن مما أدي لتغيير التركيبة الاجتماعية للقرية، بصورة أدت بالتبعية إلي تغيير التركيبة النفسية والاجتماعية والأخلاقية في القرية فضلاً عن تغير الأنماط السلوكية لأبنائها مثل تعاطي المخدرات بأنواعها وارتكاب الجرائم الجنسية والسطو وكل أشكال العنف التي كانت حتي وقت قريب بعيدة عن قاموس المجتمع القروي. ويضيف أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر ضعف السلطة الأبوية، وضياع الاحترام الأزلي لكبير الأسرة وكبير العائلة وكبير القرية الذين كانوا يسيطرون علي كل شيء في السابق وكانت كلمتهم سيفاً علي رقاب الجميع، وعلي العكس باتت هذه الرموز تنال قدراً كبيراً من السخرية والاستهزاء في انهيار واضح للنظام الأبوي الذي حكم القري المصرية لقرون. العامل الاقتصادي أيضاً لا يمكن تجاهله - بحسب المهدي - ففي الماضي كانت الثروة تتركز في يد الكبير، فالأب يملك الأرض الزراعية وما عليها من خيرات فكانت تؤول له بالتبعية سلطة التوجيه واتخاذ القرار، أما الآن ومع تفتت الرقعة الزراعية وإصرار الأبناء علي البحث عن مصدر رزق مستقل عن الأسرة، قلص من سلطة الأب وجعلها شكلية. ويكتب المهدي روشتة العلاج لهذه المشاكل وتتمثل في الإدراك الكامل لما وصلنا له دون مواربة أو خداع، ثم الرغبة الكاملة والصادقة في العلاج، مؤكداً أن الحل دوماً يبدأ من عند المثقفين والمفكرين وقادة الرأي وكذلك القيادات الدينية والسياسية القادرة علي التأثير في المجتمع والتعامل مع أمراضه، فضلاً عن توجيهه للاتجاه الصحيح. ويشدد علي ضرورة إعادة الاعتبار للرموز الدينية والثقافية والسياسية، إضافة إلي تشجيع العمل الحزبي المنضبط الذي يربي الكوادر علي قيم وأخلاقيات إيجابية، والأكيد أنه بعد ثورة 25 يناير العظيمة سيكون هناك تغيير شامل في جميع نواحي الحياة، لأن من قاموا بهذه الثورة البيضاء قادرون علي فعل أي شيء. أما الدكتور حمدي شلبي أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر فيري أن انتشار الجريمة في القرية له العديد من الأسباب أهمها: ضعف الوازع الديني حيث أصبح الاختلاط سائداً داخل العائلة دون مراعاة الضوابط والآداب الشرعية، ثم ارتفاع معدلات الأمية داخل القري لأن الجهل بعواقب الفعل يشجع علي الإقدام عليه، وكذلك مشاهدة الأفلام البوليسية والإباحية والتي تحرك غرائز الشباب وتدفعهم إلي التقليد، والفقر وتدني الحالة الاقتصادية، وغلاء المعيشة بما يجعل الأسر غير قادرة علي توفير متطلبات أفرادها، وأصدقاء السوء وعدم العدل بين الأبناء وكثرة عدد المقاهي التي تجمع العاطلين وتجعلهم يتفقون علي الشر. أما محمد خضر، أحد أبناء قرية طنيح، فيحكي قصة إحدي الجرائم الغريبة بالقري قائلاً: استيقظت القرية في أحد الأيام علي جريمة بشعة وهي قيام محمد محمد هلال بقتل والده الذي يبلغ من العمر 80 عاماً، والغريب أن الشاب اعترف في النيابة أنه أقدم علي الجريمة بعد تلقيه أمراً من السماء بذلك ولم يستطع أن يخالفه. فيما يعزي الشيخ سعد الفقي، وكيل مديرية أوقاف الدقهلية، انتشار الجريمة في القرية إلي انصراف الناس عن دينهم وغياب دور أئمة المساجد بحيث باتوا يتحرجون من الحديث عن مشاكل الأسرة في القرية خوفاً من الحساسيات والمشاكل، وكذلك اهتمام النظام البائد بالأمن السياسي دون توفير الأمن الكافي داخل القري لأن الشاب يفكر ألف مرة في ارتكاب الجريمة لو لمس الانتشار الأمني داخل قريته، موضحاً أن المخرج الوحيد من هذه الأزمة غرس الوازع الديني في نفوس الشباب لأنه كفيل بحمايتهم من الجنوح والشطط. ويؤكد اللواء حسام الصيرفي، الخبير الأمني، أن القرية المصرية حدثت لها تغيرات كبيرة، وباتت لا تختلف كثيراً عن المدن، ففي حين كانت القرية كلها تعلن الحداد لوفاة أحد أبنائها، وتحظر قيام الأفراح لعدة أسابيع، بات حفل الزفاف الذي يضم الراقصات يقام بجوار المأتم دون أدني اعتبار لمشاعر أسرة المتوفي. ويشدد الصيرفي علي ضرورة تشديد التواجد الأمني داخل القري وتغيير استراتيجيات الأمن السابقة في التعامل معها.