تسلمت حكومة المهندس إبراهيم محلب تركة ثقيلة اقتصادياً من حكومة الدكتور حازم الببلاوى، وكشفت جميع التحليلات أن أسباب إنهاء عمل تلك الحكومة تدور حول عجزها عن أداء دورها الاقتصادي المأمول منها، خاصة فى تدبير معظم الاعتمادات المالية لتلبية احتياجات المطالب الفئوية، يأتى على رأسها التطبيق الفعلى للحدين الأدنى والأقصى للأجور. لكن قبل أن تبدأ الحكومة الجديدة برسم خطط مستقبلية متفائلة أو حذرة يجب أولاً الوقوف على الأداء المالي للحكومة المستقيلة، ورصد الواقع الاقتصادي الفعلي الذى أخلفته حكومة الببلاوي لوضعه على طاولة اجتماعات رئيس الوزراء ووزير المالية الجديد هاني قدري، حيث إنه رغم جميع الإجراءات التى اتخذتها الحكومة السابقة مازالت هناك حاجة لإجراء مزيد من الإصلاحات لتحقيق الاستدامة المالية على المدى المتوسط، وتشمل هذه الإصلاحات إعادة النظر فى النظام الضريبى، ونظم التأمين الصحى والمعاشات، وإعادة هيكلة الأجور، وإصلاح هياكل الهيئات والشركات المملوكة للدولة، إلى جانب اتخاذ مبادرات جادة لتحسين نوعية خدمات التعليم والصحة. ويواجه الاقتصاد المصرى العديد من التحديات الصعبة يأتى على رأسها تباطؤ معدلات النمو الاقتصادى، وارتفاع معدلات البطالة، وارتفاع كبير وغير مستدام فى العجز الكلى بالموازنة العامة، وزيادة معدلات الدين العام، وزيادة الضغوط على ميزان المدفوعات، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الفقر والشعور بعدم العدالة الاجتماعية. وفى مواجهة تلك التحديات كان أمام حكومة «الببلاوي» الانتقالية التى تولت المسئولية فى 16 يوليو 2013 الاختيار بين أحد مسارين: إما اتباع سياسات انكماشية لتحقيق الاستقرار الكلي فى الاقتصاد على أمل أن تؤدى هذه السياسة إلى تحقيق معدلات أكبر من النمو، أو اتباع سياسات توسعية لدفع معدلات النمو الاقتصادى، والاستجابة للمطالب الاجتماعية، والعمل فى ذات الوقت على تحقيق الانضباط المالي للسيطرة على عجز الموازنة. واختارت حكومة «الببلاوي» انتهاج المسار الثانى مستفيدة فى ذلك من وديعة وزارة المالية لدى البنك المركزى منذ 1991، ثم بعد ذلك من المساعدات من دول الخليج، كما تبنت الحكومة عددا من الإصلاحات المالية لإيجاد حيز مالى يسمح بتحقيق الاستدامة على المدى المتوسط، وبدأت الحكومة تنفيذ استراتيجيتها منذ أغسطس الماضى من خلال طرح حزمة تنشيطية تعادل 1٫5% من الناتج المحلي الإجمالي، تبعتها حزمة تحفيزية مماثلة تم إقرارها فى فبراير 2014 ليصبح إجمالى قيمة الحزم المالية ما يمثل نحو 3% من الناتج المحلى الإجمالى. وقد تم توجيه ثلثى هذه المبالغ لزيادة الاستثمارات العامة فى البنية الأساسية، بينما تم توجيه باقى المبالغ لمبادرات وبرامج تسهم فى تحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية. وقد صاحب ذلك بالتوازى قيام البنك المركزى بخفض معدلات الفائدة ثلاث مرات متتالية، بمعدل نصف نقطة مئوية فى كل مرة، على أمل أن تؤدى السياسات المالية والنقدية التوسعية إلى زيادة معدل النمو الاقتصادى خلال العام الجارى ليصل إلى نحو 3٫5% مقارنة بنحو 2٫1% فى العام السابق. ورأت الحكومة الانتقالية ضرورة تبنى مجموعة من الإصلاحات الداعمة للنمو الاقتصادى والاستدامة المالية، وتشمل الإصلاحات المالية التحول إلى تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وتطبيق قانون الضريبة العقارية بعد تعديله، وإصدار قانون جديد لتنظيم استخدام الثروة المعدنية، بالإضافة إلى الخفض التدريجى لدعم المنتجات البترولية، وعلى نفس القدر من الأهمية قامت وزارة المالية بإنشاء وحدة جديدة ل «العدالة الاقتصادية» تختص بتصميم ومتابعة تنفيذ البرامج الاجتماعية التى تستهدف التحول من الدعم السلعى الذي قد لا يذهب إلى مستحقيه إلى الدعم المباشر للأسر الفقيرة. واكتشفت حكومة «الببلاوي» الانتقالية أن السياسات التقشفية ليست سياسة اقتصادية مناسبة لأنها كانت ستتسبب فى زيادة تباطؤ النشاط الاقتصادى، وبالتالى زيادة الخلل بالتوازنات الاقتصادية، وبالتالى حدوث مزيد من التدهور فى الأوضاع الاجتماعية، ولذلك قررت الحكومة اتباع سياسات توسعية لتنشيط حركة النشاط الاقتصادي، وتوفير فرص عمل، والاستجابة للمطالب الاجتماعية الأكثر إلحاحاً، لذلك أعدت الحكومة خطة لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هى: تنشيط الاقتصاد، ومعالجة الاختلالات الاقتصادية الكلية، وتدعيم العدالة الاجتماعية. وفى سبيل دفع حركة النشاط الاقتصادي، قامت الحكومة بإصدار حزمة تحفيزية فى أكتوبر 2013 بقيمة 29٫7 مليار جنيه، وقد تم توجيه ثلثى الإنفاق لزيادة الاستثمارات الحكومية في البنية الأساسية، وتخصيص 4٫8 مليار جنيه لخدمات الصحة، و1٫2 مليار جنيه لسداد المتآخرات لشركات المقاولات. وأتاحت وزارة المالية حتى نهاية فبراير 2014 نحو 20٫1 مليار جنيه للوزارات والجهات المنفذة لهذه الحزمة، كما أطلقت وزارة المالية حزمة تحفيزية ثانية فى يناير 2014 بمبلغ 33٫9 مليار جنيه، ووفقاً لسياسة مماثلة للحزمة الأولى، تم توجيه الجزء الأكبر من المبلغ للاستثمارات فى البنية الأساسية بقيمة 20 مليار جنيه، بينما تم توجيه المبالغ الأخرى للإنفاق على الحد الأدنى لأجور العاملين بالحكومة وزيادة دخول المعلمين والمهن الطبية. وبهذا يصل حجم الحزم التحفيزية التى تم ضخها فى الاقتصاد ما يعادل 3% من الناتج، وهو يعد المعدل الأعلى تاريخياً بالنسبة للاقتصاد المصرى، وقد تم تمويل الحزمة التنشيطية الأولى من خلال استخدام نصف وديعة وزارة المالية لدى البنك المركزي القائمة منذ عام 1991 «التي تبلغ إجمالها نحو 60 مليار جنيه»، بينما تم استخدام النصف الثاني من الوديعة لخفض الاحتياجات التمويلية للخزانة العامة. أما الحزمة الثانية، فقد تم تمويلها من خلال منحة مقدمة من دولة الإمارات العربية المتحدة، التى تأتى ضمن حزمة أكبر من مساعدات دول الخليج العربى. وحاولت حكومة «الببلاوي» السعي نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك من خلال التأكد من أن زيادة معدلات النمو تصاحبها زيادة فى معدلات التشغيل وأن يتم التوزيع بشكل عادل، وتحسين الخدمات الاجتماعية خاصة التعليم والصحة، والتحول من الدعم السلعى إلى دعم الأسر الفقيرة، ولكن على الرغم من مرور النصف الأول من العام المالى، إلا أن الأثر الكامل للسياسات الاقتصادية التى وضعتها حكومة «الببلاوي» لم يتحقق بعد بشكل واضح، وجاءت مبررات الحكومة بأن إجراءات تنفيذ الاستثمارات الحكومية تستغرق بعض الوقت، وأنه من المتوقع تسارع وتيرة تنفيذ الاستثمارات المنفذة خلال النصف الثاني من العام المالى، وأن مكون الإنفاق الجارى فى الحزمة التنشيطية الأولى لم يكن كافياً للتأثير بشكل كبير كمضاعف لنمو النشاط الاقتصادى، ومن المتوقع أن يشهد الأداء خلال النصف الثاني من العام المالي تطوراً إيجابياً أكثر وضوحاً، ليصل معدل النمو الاقتصادى مع نهاية العام المالي إلى نحو 3٫5% مقارنة بنحو 2٫1% فى العام الماضى، مع توقعات انخفاض نسبة عجز الموازنة العامة إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالى، مقابل 13٫7% من الناتج في العام المالى السابق. وتشير البيانات المبدئية لأداء الموازنة العامة خلال النصف الأول من العام المالى الجارى إلى أن العجز الكلى للموازنة العامة بلغ 89٫4 مليار جنيه أو ما يعادل نحو 4٫4% من الناتج المحلى الإجمالى وبمعدل انخفاض 2٫2% مقارنة بالعام السابق، إلا أنه ينبغى التعامل مع هذه النتائج المبدئية بحذر، نظراً لوجود العديد من العوامل المؤثرة على هذا الأداء، حيث إن الأداء النهائى للموازنة لا يظهر بشكل كامل إلا مع اقتراب نهاية العام المالى. ويتوقع أن يبلغ العجز الكلى فى الموازنة خلال العام المالى الجارى فى حدود 10% من الناتج المحلى، ويعتبر العجز الكلى فى الموازنة العامة من أهم التحديات التى تواجه الاقتصاد، لضمان السيطرة على عجز الموازنة ومعدلات الدين العام على المدى المتوسط، ومن المتوقع على المدى المتوسط أن ينخفض العجز الكلى عام 2017/2018 إلى 6% من الناتج المحلى للموازنة العام وأن ينخفض الدين العام الحكومى إلى نحو 74%. وعلى الرغم من الأداء المتواضع للاقتصاد المصرى خلال السنوات الثلاث الماضية فإن النظرة المستقبلية للاقتصاد المصرى تشير إلى وجود إمكانيات كبيرة للتقدم خلال السنوات القادمة، يجب أن تعمل عليها حكومة المهندس إبراهيم محلب، وذلك نتيجة لتوافر عدة عوامل رئيسية يدعم كل منها الآخر، أبرزها استكمال خريطة الطريق السياسية التى من شأنها إعادة الثقة والاستقرار، وبالتالى تحسين المناخ للعمل وللاستثمار، والتزام الحكومتين الحالية والقادمة بوضع الاقتصاد فى المسار السليم، والاهتمام الكبير الذى توليه دول الخليج لنجاح مصر واستقرار الاقتصاد المصرى.