في صراع المصالح الدولية، يتجاوز كثيرون المصطلحات القانونية المستقرة دوليا لدرجة يجعلها لا تساوي أكثر من الحبر الذي تكتب به. من أكثر هذه المصطلحات مصطلح «الشرعية» الذي أصبح معناه حمال أوجه كل حسب مصلحته من بين القوى والأطراف الدولية. يرجع الأصل اللاتيني لكلمة «شرعية» إلى legitimare بمعنى إضفاء الصفة القانونية على شيء ما. ولدى الفلاسفة السياسيين، ينظر إلى الشرعية كمبدأ أخلاقي أو عقلاني يشكل القاعدة التي يمكن للحكومة الاعتماد عليها في مطالبة المواطنين بالطاعة في حد ذاتها. وفي المقابل، يتعامل علماء السياسة مع مفهوم الشرعية من منطلق علم الاجتماع كتعبير عن إرادة الامتثال لنظام الحكم بغض لنظر عن كيفية تحقق ذلك. وبالتالي يمكن القول إن الحكومات تكتسب شرعيتها من رضا وقبول المواطنين بالامتثال لأوامرها ونواهيها وإجراءات وغير ذلك من ذلك من تدابير حكومية بالطاعة والتسليم بها. وفي عالمنا الحديث، استقر المجتمع الدولي على الاعتراف بشرعية الحكومات ما دامت قد جاءت بصناديق الاقتراع، أو حظيت بقبول شعوبها لها من خلال طاعتها وعدم الخروج عليها وعلى رموزها من مؤسسات ومقرات وتدابير تنفذها قواها القاهرة من هيئات مسلحة. ومع اندلاع ثورات الشعوب ضد حكام مستبدين، تضطر أطراف المجتمع الدولي للقبول بشرعية الحكومات التي تشكلها مثل هذه الثورات. وهذا ما حدث في فبراير 2011، عندما نجح المصريون في إسقاط نظام الرئيس حسني مبارك، تاركين الميادين فور إعلان تنحيه وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد. استمر حسني مبارك في السلطة لقرابة 30 عاما بالرغم من كل ما قيل عن استبداده أو التزوير الفادح في الاستفتاءات والانتخابات المتعاقبة، دون أي اعتراض من المجتمع الدولي لوجود ما يسمى بالقبول الشعبي لحكمه بسبب امتثال الشعب بالطاعة لهذا النظام، وفي اللحظة التي خرج فيها المصريون عليه وعلى نظامه، فقد شرعيته لدى المجتمع الدولي رغم أن مدته القانونية لم تنته بعد. المجتمع الدولي وفي القلب منه أوروبا والغرب، قبل نظام ما بعد مبارك واعتبره شرعي بسبب الرضا الشعبي بإدارة القوات المسلحة. هذا الغرب الذي قبل بشرعية الميادين في الإطاحة بمبارك، لم يتورع عن سياسته المعهودة في استخدام مكيالين عندما خرج أضعاف المتظاهرين ضد مبارك للمطالبة بإسقاط الرئيس الإخواني مرسي. استشاط الغرب ضد النظام المصري بعد 30 يونيو بدعوى أن ما حدث انقلاب ضد رئيس منتخب، وكأن مبارك لم يكن رئيسا منتخبا، حتى إذا اختلفنا مع طريقة انتخابه. السر في ذلك هي مصالح الغرب بطبيعة الحال، الذي كان قد توصل إلى اتفاقيات متبادلة مع الإخوان المسلمين، ستكشف عنها المحاكمات الجارية ضد قادة الجماعة، تضمن دعمهم في الاستمرار في حكم مصر مع تنفيذ مطالب الغرب في ضمان أمن إسرائيل والحفاظ على النفوذ الغربي في مصر وفي المنطقة والمشاركة في إعادة رسم خريطة المنطقة بما يقتضي مع المصالح الغربية. وكما كان النموذج المصري كاشفا لزيف الغرب في التعامل مع مصطلح الشرعية، أصبح النموذج الأوكراني دليلا دامغا على هذا الأمر. وقف الغرب يدعم ويساند الثوار الأوكرانيين في ثورتهم ضد الرئيس الذي هو منتخب أيضا فيكتور يانكوفيتش. اعتبر الغرب أن ثوار أوكرانيا هم الشرعية الحقيقية. السر هنا أيضا كان في مصالح هذا الغرب في تلك الدولة التي كانت يوما جزءا من الاتحاد السوفيتي. استمرار نفوذ الغرب في أوكرانيا يعني السيطرة على كثير من المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية التي توفرها تلك الدولة لأوروبا، والتي يمكن من خلالها ضرب أي تمدد لنفوذ روسيا في المنطقة. من المنطلق نفسه، لم تزعج روسيا نفسها بمعاداة النظام المصري الذي تشكل بعد إطاحة مرسي بثورة شعبية، لأنها رأت بذلك أن نظام الإخوان يمثل قوة مضافة للنفوذ الغربي في المنطقة. بل وسعت روسيا لأن تقدم نفسها من جديد لمصر، لعلها تكون بالنسبة لها في المستقبل حليف يفيدها في صراعها مع الغرب في وقت يعاني فيه حليفها القوي في دمشق من ترنح قد يودي به إلى الهاوية. ومع زيارة المشير عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية نبيل فهمي إلى موسكو منذ أسبوعين، وخشية الغرب من تشكل تحالف بين روسيا ومصر، لجأ الغرب إلى دفع الأحداث دفعا في أوكرانيا وفنزويلا والوقف بجانب الثوار، في معركة تكسير عظام مع موسكو. أيضا، وروسيا التي لم تصف ما حدث من ثورة شعبية ضد مصر بانقلاب اعتبرت، أن الثوار الموالين للغرب في كييف مجرمون، واعتبرت أن النظام الجديد الذي تشكل بعد عزل يانكوفيتش بالانقلاب، رغم أنه كان نتيجة احتجاجات شعبية ضخمة. لكن تكييف مصطلح الشرعية بين موسكووواشنطن وفقا للمصالح في مصر وأوكرانيا يمكن أن يكون مفهوما في إطار لعبة المصالح الدولية. لكن المثير للسخرية أن جماعة الإخوان المسلمين التي تخرج في مظاهرات منذ 8 شهور تطالب بعودة شرعية الرئيس المنتخب محمد مرسي، وتعتبر أن ما جرى ضده انقلاب، رغم أن عزله جاء كعزل مبارك بناء على رغبة شعبية عارمة عبرت عن نفسها بقوة في 30 يونيو، انتقدت اعتبرت أن ما حدث في أوكرانيا ثورة شعبية، بالرغم من أنه ضد رئيس منتخب. قالت الجماعة في بيان لها. وقالت الجماعة فى بيان لها «هناك الآن ثورة شعبية فى أوكرانيا ضد الحكومة، وبغض النظر عن أسباب الغضب والثورة، فقد كنا نتمنى أن تحل بالوسائل السلمية الديمقراطية التى تحترم إرادة الشعب، وهذا موقفنا الثابت من كل خلاف فى أى دولة فى العالم». إذن لم ينج مصطلح الشرعية من تكييف حسب المصالح، حتى على مستوى الجماعات مثل الإخوان المسلمين. فالكل يعتبره التكئة التي تبرر له وجوده ومصالحه. ويبقى أن الفيصل هو الواقع على الأرض وقبول المواطنين ومدى طاعتهم للحكومات، بغض النظر عن مواقف أطراف لها مصالح قد تكون ضد المصالح الوطنية.
من هي أوكرانيا؟ أوكرانيا هي ثاني أكبر دول أوروبا الشرقية. يحدها الاتحاد الروسي من الشرق، وبيلاروسيا من الشمال، وبولندا وسلوفاكيا والمجر من الغرب، ورومانيا ومولدوفا إلى الجنوب الغربي، والبحر الأسود وبحر آزوف إلى الجنوب. وهى عضو في رابطة الدول المستقلة وكييف هي العاصمة وأكبر مدينة في أوكرانيا. بدأ تاريخ أوكرانيا الحديث مع السلاف الشرقيين. على الأقل، ومنذ القرن التاسع، أصبحت أوكرانيا مركز القرون الوسطى للسلاف الشرقيين. امتلكت هذه الدولة، المعروفة باسم روس كييف، القوة والأرض، لكنها تفككت في القرن الثاني عشر. بعد حرب الشمال العظمى، قسمت أوكرانيا بين عدد من القوى الإقليمية، وبحلول القرن التاسع عشر، خضع الجزء الأكبر من أوكرانيا للامبراطورية الروسية، بينما ما تبقى كان تحت السيطرة النمساوية. وبعد الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الروسية، برزت أوكرانيا في 1922 كأحد مؤسسي الاتحاد السوفيتي. تم توسيع جمهورية أوكرانيا السوفيتية الاشتراكية غربا قبل فترة وجيزة، وبعد الحرب العالمية الثانية، وجنوباً في عام 1954 عبر تهجير شبه جزيرة القرم. حصلت أوكرانيا على الاستقلال مرة أخرى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991. بدأت هذه الفترة بالانتقال إلى اقتصاد السوق، حيث ضرب الركود الاقتصاد الأوكراني لثماني سنوات. لكن منذ ذلك الحين، فإن الاقتصاد شهد زيادة كبيرة في نمو الناتج المحلي الإجمالي. أثرت الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 على أوكرانيا واضطرب الاقتصاد. وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20 ٪ من ربيع 2008 إلى ربيع 2009. وأوكرانيا هي دولة موحدة تتألف من 24 محافظة، بالاضافة الى جمهورية مستقلة ذاتياً هى القرم وتتمتع اثنتان من المدن بمركز خاص: كييف، العاصمة، وسيفاستوبول، التي تضم أسطول البحر الأسود الروسي وفقا لاتفاق تأجير. وتتمتع اوكرانيا بنظام جمهورى نصف رئاسي مع فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، تمتلك أوكرانيا ثاني أكبر جيش في أوروبا، بعد روسيا. يعيش في البلاد 46 مليون نسمة، 77.8% من أصل أوكراني، مع أقليات كبيرة من الروس والبيلاروس والرومانيين. اللغة الأوكرانية هي اللغة الرسمية الوحيدة في أوكرانيا، بينما تستخدم الروسية على نطاق واسع. الدين السائد في البلاد المسيحية الأرثوذكسية الشرقية.
عودة الحرب الباردة سطور جديدة من الصراع بين الولاياتالمتحدةوروسيا - مسرحها هذه المرة كان الاراضى الأوكرانية - أعادت الى الاذهان ما كان يحدث إبان الحرب الباردة التى عانى العالم من تبعاتها على مدار عقود طويلة امتدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر ثمانينيات القرن الماضى. لكن الأمر اختلف قليلا فالصراع هنا أصبح الاقتصاد وقوده الاول كما أن الامر لم يعد قاصرا على قطبين فقط ولكن اصبح هناك لاعبين دوليين آخرين لهم دور ملموس فى تحديد مصير الصراع. والصراع الدائر حاليا جعل البعض يؤكد عودة الحرب الباردة التى انتهت بنهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وبعد سنوات كثيرة قضاها الدب الروسى فى سبات عميق، استيقظ منه مع وصول الرئيس القوى فلاديمير بوتين الذى سعى إلى استعادة النفوذ الروسى فى العالم أجمع، وكانت نقطة انطلاقه اكتشافات الغاز التى سهلت له طريقة من خلال التنازل عن ديون العراق وليبيا وغيرها من الدول، فى محاولة لاستمالتها من جديد. فروسيا التى خرجت من سباتها أصبحت منافسا حقيقيا للولايات المتحدة على مناطق النفوذ ساعدها على ذلك التحسن الملموس الذى شهده اقتصادها، فموسكو الآن أصبحت تصدر الاسلحة لقرابة 80 دولة بالاضافة الى انها استعادت مكانتها في صدارة العالم لتصنيع الاسلحة الكيماوية والصواريخ الباليستية اضافة الى امتلاكها اكثر من 16000 رأس نووي كفيلة بتدمير العالم كله كما انها تملك ثلث المخزون الاحتياطي العالمي من البترول وتصدر الغاز الطبيعي لعدد من الدول الاوروبية, أضف الى ذلك استنادها مؤخرا إلى الاكتفاء الذاتي من الثروة الزراعية بل انها تصدر كافة انواع المحاصيل الى عدد كبير من دول العالم الثالث. ومع الوضع فى الاعتبار كل ما سبق إلا أن صراع النفوذ هو ما دفع الولاياتالمتحدةالامريكية لتدعيم المعارضة الاوكرانية بكل قوة من اجل اسقاط رئيس اوكرانيا الموالي لروسيا وكأنها ارادت الانتقام مما فعلته روسيا مؤخرا من مواقف منعت أو على الأقل أجلت الضربة الامريكية لسورية, بالاضافة إلى المواقف الروسية التي تلت ذلك بعقد صفقات للاسلحة الروسية مع مصر والتي أدارت هي الاخرى ظهرها للولايات المتحدةالامريكية الأمر الذي ازعج الولاياتالمتحدة وجعلها تعتقد أن البساط بات ينسحب تدريجيا من تحت أرجلها في دول النفوذ في الشرق الاوسط واستبدال دورها بالدور الروسي. الادارة الامريكية أيقنت أن الدب الروسي نجح فى الخروج منتصرا أكثر من مرة في الحرب الباردة الجديدة كما حدث فى سوريا ومصر فقررت أن تواجهه بقوة فى أحد مناطق نفوذه بدعمها للمعارضة الاوكرانية والاطاحة بالرئيس الاوكراني الموالي لروسيا ونجحت في ذلك برغم تحذيرات روسيا المتكررة من التدخل الامريكي واحتجاجها على تصريحات واجتماعات وزير خارجيتها «جون كيري» مع المعارضة الاوكرانية. وبالطبع كان الغرب هو الداعم الرئيسى للموقف الامريكى فى اوكرانيا عن طريق تأييد المعارضة والمحتجين الأوكرانيين وظهر هذا وضحاً حيث تجولت كاترين أشتون، المفوضة العليا للشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، في ميدان الاستقلال برفقة المعارضين، وقامت فيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية الأمريكية، مع السفير الامريكي بتوزيع الخبز على المتظاهرين في الميدان. وتفقد جون ماكين، عضو الكونجرس الأمريكى، ميدان الاستقلال وألتقى زعماء المعارضة مؤكداً أن «مستقبل أوكرانيا سيكون ضمن أوروبا. البعض يرى الصراع الذى شهدته الدولة السوفيتية السابقة، وانتهى بخروج الرئيس فيكتور يانوكوفيتش من السلطة هزيمة للرئيس الروسى فالديمير بوتين أمام الادارة الامريكية برئاسة باراك أوباما خاصة أن روسيا حاولت بكل الطرق دعم يانكوفيتش بما فى ذلك الموافقة على حزمة انقاذ قيمتها 15 مليار دولار لأوكرانيا المثقلة بالديون والتعهد بخفض السعر الذي تشتري به أوكرانيا الغاز الروسي. كل هذه المحاولات الروسية كانت تهدف الى ابقاء نفوذ موسكو فى أوكرانيا. وفى المقابل فإن واشنطن سعت من خلال دعمها للمعارضة الاوكرانية لتكثيف تواجدها فى الدول المحيطة بروسيا, ليذكرنا هذا بما حدث عام 2008 فى جورجيا الجمهورية السوفيتية السابقة ايضا عندما امدت الادارة الامريكية هذه الدولة بالاسلحة وهو ما دفع روسيا الى التدخل عسكريا لوقف التدخل الامريكي والاسرائيلي ايضا. صحيح أن الولاياتالمتحدة نجحت في إسقاط حكومة فيكتور يانوكوفيتش المنتخبة ديمقراطيا عبر صناديق الاقتراع، من خلال دعم المتظاهرين فى الشارع، إلا أن الحقيقة التى لن تستطيع امريكا اغفالها هى أن انصار روسيا فى أوكرانيا هم أكثر بكثير من الذين نزلوا الى الساحات، ولن يتركوا الملعب لينفرد به الجانب الآخر، كما حدث في جورجيا. إن روسيا التى سعت جاهدة تحت قيادة بوتن لاحياء وجودها فى دول الاتحاد السوفيتي السابق، عبر معاهدات واتفاقيات ثنائية ومتعددة الاطراف، لن تسمح لامريكا أن تنفرد بزمام الأمور فى كييف لسبب بسيط هو وقوع أوكرانيا على حدودها لذلك فإن ما حدث فى اوكرانيا من تطورات لن تكون الاخيرة كما أن الأزمة الأوكرانية ذاتها لن تمثل الحركة الأخيرة في الصراع حول النفوذ العالمي بين واشنطنوموسكو.