شهدت مصر خلال فترة زمنية لا تتجاوز عامين ونصف العام وهي الفترة الممتدة من 25 يناير 2011 وحتى 30 يونية 2013 إسقاط نظامين وإسقاط رئيسين، كما شهدت دستورين وعدة إعلانات دستورية وإعلانات دستورية مكملة، كما شهدت نشأة العديد من الائتلافات والحركات الثورية، فضلا عن استمرارية الحراك الثوري في الشارع المصري واستمرارية التظاهرات والتي تكون لأسباب مختلفة سياسية أو فئوية أو وقفات احتجاجية أو لإعلان التمسك بمبادئ الثورة أو غير ذلك من الأسباب والمبررات وهو ما يثير التساؤل عن مبررات استمرار التظاهرات وتفسيرها وآثارها والتوقعات المستقبلية لهذه الظاهرة، ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى الملاحظات التالية:- أولا: خصوصية المشهد المصري،فقد عرفت مصر ولفترة زمنية طويلة تقارب ستة عقود من الزمان أعقبت ثورة يوليو 1952 عزوفا عن المشاركة السياسية بمعناها الواسع سواء كان من خلال المشاركة في الانتخابات أو الاستفتاءات أو المشاركة التطوعية وذلك من الناحية الفعلية أو الواقعية رغم أن النتائج والإحصاءات الرسمية قد تكون خلاف ذلك، ويمكن تفسير هذا الوضع بأن المواطن تولد لديه الشعور بأن صوته ليس له تأثير في إنجاح مرشح أو عدم إنجاحه، وأن النظام يفعل ما يريد ويأتي في المشهد السياسي بمن يرغب ولا يأخذ في الاعتبار الإرادة الشعبية أو اختيارات الجماهير، وربما جعل النظام من نفسه، وفي حالات متعددة، بديلاً للشعب في عملية الانتخاب والاختيار ولم تكن النظرة إلى الشعب باعتباره طرفاً مؤثراً في العملية السياسية بل صرح بعض المسئولين في النظام الأسبق بأن الشعب غير مؤهل للديمقراطية وغير قادر على ممارستها الممارسة الصحيحة. وقد أدى ذلك الوضع من الناحية الواقعية إلى إحجام الشعب في أغلب الأحيان عن المشاركة السياسية، وهو ما يطلق عليه بالمصطلحات السياسية ارتفاع درجة السلبية السياسية، وربما المظهر الوحيد تقريبا للمشاركة الشعبية هو ذلك النمط الذي كان يسمح به النظام أو يرغب فيه وهو الحشد لتأييد سياسة معينة أو قرار معين يرغب فيه النظام،وأدى ذلك إلى أن تتراجع المشاركة الشعبية الحقيقية في أغلب الأحيان أو أن تحل محلها التعبئة في بعض الأحيان، وربما كان ذلك الوضع يجد تفسيره في تولد قناعة لدى غالبية الشعب بعدم قدرتهم على التأثير أو تغير الأوضاع. وقد جاءت ثورة 25 يناير لتحدث تغيراً جوهرياً في المشهد السياسي المصري وكذلك ثورة 30 يونيو التصحيحية، ويتحول المشهد السياسي المصري من النقيض إلى النقيض، وإقبال متزايد من جانب المواطن المصري على المشاركة السياسية في الاستفتاءات والانتخابات أو من خلال الإسراف في التظاهر كأحد الحقوق السياسية التي يمارسها المواطن المصري عقب ثورتين، وبحيث أصبح لا يكاد يمر أسبوع دون حدوث تظاهرات مختلفة ومتنوعة ووصل الأمر إلى حد الخطورة نظرا لظهور الإرهاب وحدة التناقضات والانقسامات فضلاً عن خروج بعض التظاهرات وبعض الأطراف عن نطاق السلمية. ثانيا: تفسير التظاهرات وآثارها، توجد عدة عوامل تفسر ارتفاع وتيرة المظاهرات في مصر وإلى الدرجة التي جعلت مصر من أعلى دول العالم في عدد المظاهرات في خلال العام المنصرم، ويمكن تفسير ذلك بأن الشعب المصري عقب 25 يناير أصبح مختلفاً تماماً عما كان عليه قبل ذلك التاريخ، وأصبح الشعب المصري متغيرا أصيلا في العملية السياسية وسقط حاجز الخوف، وتحول الشعب من النقيض إلى النقيض أي من السلبية وعدم الإقبال على المشاركة إلى الإقدام على المشاركة وبطريقة غير مسبوقة بعد أن شعر الشعب بقدرته على التأثير والتغيير وإحداث التحولات المهمة، وربما ساعد على تزايد التظاهرات أيضا غياب المؤسسات السياسية وعدم تواجدها في بعض الأحيان، أو وجودها وعدم قدرتها على التمشي مع الرغبات الشعبية في أحيان أخرى، وبحيث أصبح الشارع يسبق في مطالبه وآماله وطموحاته هذه المؤسسات السياسية وأدى ذلك إلى استمرارية التظاهرات تعبيرا عن استمرارية الثورة ومطالبها وأهدافها من جانب، وتعبيراً عن ضعف أو غياب المؤسسات من جانب آخر، وأصبحت العلاقة مباشرة بين النخب والشعب نظراً لغياب المؤسسات وهي الظاهرة التي يطلق عليها في السياسة المجتمع الجماهيري أو المجتمع المتسيب. ثالثا: ثورية المؤسسات،ويقصد بذلك أن تتواجد المؤسسات السياسية القادرة على تبني مطالب وأهداف الشعب ومبادئ ثورته وتعمل على تحويلها إلى واقع يعيشه المواطن في حياته اليومية وتزول الفجوة بين الشارع وهذه المؤسسات ،وربما تكون بداية هذه العملية في إقرار الدستور والذي يتضمن مبادئ الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مثل الكرامة الإنسانية وما يتعلق بالبطالة ومواجهتها ومكافحة العشوائيات والضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والعدالة الاجتماعية وغيرها من المبادئ التي طالب بها الشعب، وعقب الانتخابات البرلمانية يتم إصدار القوانين التفصيلية التي تحول هذه المبادئ العامة إلى واقع يشعر به المواطن المصري ويؤثر على حياته اليومية بطريقة إيجابية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية وهذا هو الاهتمام الأول لأي مواطن في أي دولة، واستكمالا لهذه المؤسسات فإن تواجد رئيس منتخب يحظى بقبول الشعب وتأييده ويكون قادراً على اتخاذ القرارات المناسبة لمواجهة التحديات التي تعترض الوطن وتحقيق مطالب الجماهير، فضلاً عن وجود حكومة قوية تتفهم الرغبات الشعبية وتعمل على تحقيقها ويكون لديها القدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها ،إذا تحقق ذلك سيزول الفراغ المؤسسي وتتواجد مؤسسات قوية وقادرة تحقق مطالب الشعب الثورية، ويحدث الانتقال من ثورية الشارع إلى ثورية المؤسسات ويتحقق الاستقرار المطلوب حيث يهدأ الشارع ويتفرغ الشعب والمؤسسات لعملية البناء.