علي حساب العمل الفردي، يُعد العمل المؤسسي سمة مميزة للمجتمعات المتحضرة، بوصفه المفهوم المعاصر للعمل الجماعي، فليس من شك أن «المؤسسية» باتت العنوان الأبرز، والركيزة الأساسية للتقدم الحضاري في كافة الأنشطة البشرية. ومع التقدير للفروق الشخصية، وما يمكن أن تضيفه من قيمة مضافة إلي كل جهد بشري، فإن العمل السياسي في الديمقراطيات المعاصرة، لا يمكن تصوره بعيداً عن العمل المؤسسي، بل إن كل إهدار لقيمة العمل المؤسسي، هو بمثابة انتقاص صريح من جوهر مفهوم الديمقراطية. من هنا فإن تخلف العمل المؤسسي في المجال السياسي، يواكبه بالضرورة تخلف مماثل في كافة المجالات، الاقتصادية والاجتماعية وغيرها؛ ذلك أن العمل المؤسسي ما هو إلا ثقافة مجتمعية لا تدركها المجتمعات إلا بعد تجارب تترك خبرات تراكمية، تؤكد قصور الاستسلام لمفهوم القائد الفذ المُلهم، ما يُفضي إلي حتمية العمل بشكل مؤسسي، تنصهر فيه الخبرات الفردية في منظومة تنتهج مجموعة من الأسس والمبادئ والمعايير، التي تضمن شفافية الأداء، وإمكانية المساءلة. وعلي ذلك يمكن تفسير ذيوع ثقافة العمل الفردي، وإهدار قيمة العمل الجماعي في المجتمعات غير الديمقراطية، بوجود أنظمة مُعادية للديمقراطية، لا تقوى علي مواجهة الرأي العام في ظل ثقافة العمل الجماعي، وما تفرضه من اتساع رقعة المشاركة السياسية، وارتفاع الوعي السياسي بشكل عام، حيث ترتكز العملية الديمقراطية علي برامج سياسية واضحة ومحددة، لا تخضع للأهواء الشخصية، ولا تعتمد علي صلات القرابة والمصاهرة، وغيرها من السمات التي ما زالت للأسف حاكمة لأدائنا أمام صناديق الانتخابات. ولعل أسوأ ما في تغليب العمل الفردي علي نظيره الجماعي، ما يمكن التعبير عنه بوفرة «نائب الخدمات» في البرلمان، وهو النائب الذي لا هم له إلا تحقيق مصالح أبناء دائرته الانتخابية؛ ومن ثم لا يمكنه النهوض بدوره الرقابي والتشريعي في ظل احتياجه للوزراء من أجل التوقيع بالموافقة علي حل ما يحمله من مشكلات وأزمات تخص أبناء دائرته.! ووفق هذا المنطق، عاني الوطن من ازدحام البرلمان بنواب عن دوائرهم الانتخابية فقط، لا يجسدون حقيقة أنهم في البرلمان باعتبارهم نواباً عن الشعب كله، وبالتالي لا يدركون من القضايا الوطنية ما يبتعد عن حدود دوائرهم الانتخابية. من هذا المنطلق كان حرص الأنظمة غير الديمقراطية علي تهميش الأحزاب، ومحاصرتها، وتشويه رموزها، بغرض إقصاء الشعب عن مسئولياته الوطنية في المشاركة السياسية وفق مناهج وبرامج سياسية حقيقية، يمكن الاستناد إليها في مساءلة القائمين علي إدارة شئون الدولة. واليوم ونحن في سبيلنا إلي بناء دولة ديمقراطية حديثة، لا ينبغي أن نستمر في إهدار قيمة العمل الجماعي، والاستغراق في الفردية، حيث تتغلب المظهرية والمصالح الذاتية علي الأسس الحاكمة والمعايير المحددة التي يرتكز عليها جوهر العملية الديمقراطية، فعلي سبيل العمل الجماعي ... كانت ثورتنا المجيدة. «الوفد»