تتغير القواعد الرئيسية لاستراتيجيات السياسة الخارجية للدول - وخاصة القوى الكبرى - تبعاً للتحولات المهمة في النظام الدولي، وطبيعة العلاقات الدولية . وكان اللافت للنظر، خاصة في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط ونحن جزء أساسي منه ظهور ما يسمى بانتقال خط المواجهة إلى الداخل، أي إلى داخل الدولة نفسها، عقب انتهاء الحرب الباردة، وهو الخط الذي كان تقليدياً، وعلى طول السنين، يعبر عنه بأنه خط حدود الدولة . هذا المفهوم تطور على طول السنين الماضية، منذ ظهوره في أول التسعينات . وتسارعت خطواته، إلى أن وصل إلى الصورة التى نشهدها الآن، من جهود لخلق عدو صريح للدولة من داخلها . سواء عن طريق الإيحاء أو الاختراق، لتنظيمات متطرفة، أو عن طريق تجنيد عملاء محليين . ويتجسد هذا بصورة شديدة الوضوح في سيناء، فضلاً عن مشاهد لسلوكيات داخل مدن مصر عامة، تعادي الدولة ومؤسساتها، وفي مقدمتها الجيش . وهو تطور يرتبط بتوجه جديد في الاستراتيجيات الخارجية، وخاصة الاستراتيجية الأمريكية، والذي عرف باستخدام أنظمة حكم بالوكالة، وإشعال حروب بالوكالة . كانت الاستراتيجية العالمية Grand Strategy للولايات المتحدة، قد بنيت أثناء الحرب الباردة على قاعدة الاستجابة للحاجة إلى احتواء الاتحاد السوفييتي، ومنع توسيع نفوذه في مناطق العالم . وقد زودت الحرب الباردة السياسة الخارجية، بوضوح الهدف . وحين انتهت الحرب الباردة، كان من الضروري إعادة التفكير في المبدأ الذي تقوم عليه استراتيجية السياسة الخارجية، وإعادة صياغة دور أمريكا في العالم . لهذا بدأت في مراكز البحوث السياسية، سلسلة من المناقشات حول الاستراتيجية العالمية، تسعى لتقديم إجابة على أسئلة جوهرية منها: ما هي أكثر المناطق أهمية للأمن القومي الأمريكي؟ . . ما هي الالتزامات التي ستتحملها الولاياتالمتحدة، في إطار تحالفاتها الدولية والاقليمية؟ . . هل لأمريكا مصلحة في الاستقرار الاقليمي؟ . . ما هو المعيار الملائم للموازنة بين التزامات أمريكا الخارجية، واحتياجاتها الداخلية؟ ويلاحظ أنه ضمن استراتيجية الأمن القومي الجديدة التي أعلنها البيت الأبيض في 20 سبتمبر/ أيلول ،2002 الحديث عن مبدأ الهجوم الوقائي على عدو محتمل، ونقل المعركة إلى أرضه، قبل أن يبادر بأي هجوم . وهو ما فسره الرئيس الأمريكي بوش في أكثر من خطاب له بقوله: لن ننتظر بعد الآن، إلى أن يتوافر لنا دليل على نيات أعدائنا، قبل أن تبادر أمريكا بالدفاع عن نفسها في الخارج . نفس هذا التفكير كشف عنه وزير الدفاع وقتئذ دونالد رمسفيلد بقوله: إن الولاياتالمتحدة قد تقوم بعمليات خاصة داخل دول، دون علم حكومات هذه الدول . وكان ذلك إشارة إلى مفهوم نقل خط المواجهة إلى داخل الدولة، باستخدام وكلاء وعملاء، وباستخدام وسائل ضغط اقتصادية، ودبلوماسية، وسياسية . ومن المعروف أن أي رئيس أمريكي يمكن أن يحدد لعهده مبدأ جديداً لسياسته الخارجية، ولطريقة إدارة علاقات بلاده الدولية، لكن تظل هناك قواعد ثابتة ومستمرة، لا يحيد عنها أي رئيس، وهي تحقيق التفوق بقدر الإمكان، والمحافظة على الهيمنة الأمريكية حماية لمصالحها ونفوذها في مناطق العالم . وهو أمر موروث عبر عهود مختلف الرؤساء . وسوف نجد أن الرئيس أوباما قد ركز في الفترة الأخيرة على مبدأ التوجه نحو آسيا، باعتبارها محور المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، بعد أن كانت أوروبا هي محور الاهتمام في سنوات الحرب الباردة، وخاصة بعد الصعود المتتابع للصين، وما استقرت عليه المؤسسات السياسية في الولاياتالمتحدة، من أن الصين سوف تتعامل بالقوة مع الولاياتالمتحدة، بحلول عام 2020 . وهذا لا يعني دخولها في صراع قوة، كالذي كان يدور بينها وبين الاتحاد السوفييتي، في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام ،1945 لكنها تسعى لترتيبات لموازنة قوة الدولتين، والحيلولة دون خسارة أمريكا مواقع نفوذها ومصالحها في آسيا . مع الأخذ في الحسبان، أن كلاً منهما تحتاج الأخرى . ولا تستطيع الاستغناء عن العلاقة معها، بسبب تعاظم المصالح الاقتصادية والتجارية والمالية المتبادلة بينهما . لكن - وبسبب هذا التوجه نحو آسيا - تظل الولاياتالمتحدة، في أشد الاحتياج لتأمين مصالحها الحيوية والاستراتيجية في الشرق الأوسط . وهو ما جدد مرة أخرى الاهتمام، بمفهوم خط المواجهة في الداخل، والاعتماد على الوكلاء، وبالأخص في دولة كمصر، ترى أمريكا أنها لو امتلكت قرارها المستقل، فيمكن أن تحدث تغييراً في المنطقة، قد يؤثر على استقرار مصالحها الحيوية اقليمياً . ولهذا كان غلوها في استخدام مبدأ الوكلاء في مصر، والذي ظهر بوضوح في علاقتها بنظام حكم الإخوان، ودعمها له، ثم ما ظهر من رد فعل جاد تجاه مصر، بعد إزاحة حكم الإخوان، الذي أدى لها دور الوكيل الطائع، والذي كان راعياً لموجات الفوضى في مصر، وفي سيناء التي فتحوا أبوابها لمنظمات الإرهاب التي جاءت من أفغانستان، ومن غيرها . إذا كان مفهوم خط المواجهة في الداخل، يعود ظهوره إلى أول التسعينات، وما لحقه من تطور، بالتركيز على استخدام وكلاء محليين، ليسوا أكثر من كونهم عملاء، فإن التبني الصارخ والصريح، من السياسة الأمريكية لهذا المفهوم الآن، هو تأكيد على ترتيبات، خلق عدو للدولة من داخلها، ومساندته بكل الطرق والوسائل . نقلا عن صحيفة الخليج