قد يبدو ظاهريا ان صعود تركيا كقوة إقليمية, كان مفاجئا, ولما كان التحول التاريخي في أوضاع وتوجهات أي قوة اقليمية أو دولية, ليس وليد يومه, لكنه نتيجة جهود واعية ومثابرة, فإن النظرة الي هذا الصعود من مختلف أبعاده, قد تكشف عن بداياته الحقيقية, وطبيعته, وعن احتمالاته المستقبلية. وتركيا مثلها مثل غيرها من الدول التي حققت الصعود, حين استوعبت ماهية مفاتيح القوة والنفوذ في النظام الدولي القادم, وشكل الخريطة العالمية التي كان يعاد صياغتها. فحين انتهت الحرب الباردة فأدركت القوي الواعية, ان عنصر الايديولوجية الذي كان محركا للسياسة الخارجية قد حل محله عنصر المنفعة.. وهو التعبير الذي كان أول من استخدمه شيفرنادزه وزير الخارجية السوفيتية وقتها ثم التطور الذي لحق بهذا المصطلح ليصاغ في كلمة المصلحة, وهو المفهوم الذي تبلور اكثر حين استقر اصحاب الفكر السياسي والاستراتيجي, علي ان الاقتصاد أو بمعني أدق القدرة الاقتصادية التنافسية, هو الذي سيكون الأساس الذي تنبني عليه قوة الدولة ومكانتها ونفوذها الاقليمي, وفي ارتباط لذلك بالديمقراطية, والوعي بأن مكانة الدولة اقليما ودوليا, تأتي من قدرتها علي استخدام امكاناتها, في التأثير علي مجريات الأحداث في المحيط الأقليمي خارج حدودها. وتوالي ظهور نتائج هذا التفكير في دول آسيا التي نهضت, وفرضت علي القوي الكبري الاعتراف بوجودها, وظهر كذلك في امريكا اللاتينية, مجسدا بدرجة أوضح في البرازيل منذ تولي رئاستها لولادي سيلفا عام1992 في اول انتخابات ديمقراطية حرة, بعد سنوات الانقلابات. والذي وصل ببلاده في سنوات قليلة لتحتل المركز العاشر في الاقتصاد العالمي, بعد اصلاحات اجتماعية لاعادة توزيع ثمار التنمية بالعدل, وانعاش الطبقة الوسطي ولما كنا نتحدث عن تجربة تركيا نموذجا, للصعود الاقليمي, فإن البداية كانت منذ عشرين عاما, حين استوعب هذا التطور, أصحاب الفكر السياسي, قبل ان تستوعبه مستويات الحكم في الدولة, ولعل أحد أقطاب هذا الفكر هو أحمد داوود أوغلو, وزير خارجية تركيا حاليا. ومنذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم عام2002, غلبت علي تفكيره واقعية العصر المتغير, وان القدرة الاقتصادية هي الأساس قبل أي شيء آخر, فأحرز القبول الكاسح في انتخابات تمت بديمقراطية نزيهة, واجرءات قانونية تجعل دولة القانون اسما علي مسمي, تسير معها يدا بيد سياسات اقتصادية طموحه. وكان أحمد داوود أوغلو مهندس السياسة الخارجية الجديدة لحكومة رجب طيب أردوغان محددا في قوله ان الاقتصاد هو قلب المسألة. وخلال سنوات قليلة, قفز الاقتصاد التركي ليصبح اكبر اقتصاد في الشرق الأوسط, بحجم600 مليار دولار, ويقوم علي أساس من الصناعات المتقدمة, والقدرات الانتاجية المتطورة. وكانت استمرارية نمو الاقتصاد, تحتاج الي الأسواق, فسعت تركيا لاقامة علاقات أفضل مع دول الجوار, مما ادي الي مضاعفة حجم تجارتها مع جيرانها نحو عشرين مرة خلال فترة تقل عن سبع سنوات, وتابعت سياستها بالتحرك الي افريقيا, فافتتحت لها15 قنصلية, وزادت من أسواقها هناك. كان الشرق الأوسط, مركز جذب سياسي قوي لها, فهي ترتبط به بحكم الجغرافيا والتاريخ فتوجهت نحو المنطقة تحركها هذه العوامل: 1 ان تركيا مثلها مثل اي دولة تضع لنفسها استراتيجية تتماشي مع تغيرات العصر. ففي فترة الحرب الباردة, كان الشرق الأوسط منطقة صراع علي النفوذ بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي. وعندما تفكك الاتحاد السوفيتي عام1991, وجدت القوي الاقليمية الرئيسية اسرائيل وايران وتركيا, ولكل منها طموحها الاقليمي, ان الفرصة سانحة أمامها لاقتحام منطقة مهمة فيها فراغ استراتيجي عربي. وهذا من طبيعة عمل وحركة استراتيجيات مصالح الأمن القومي لأي دولة كانت. 2 ماتأكد لتركيا من ان القضية الأولي في الشرق الأوسط, وهي القضية الفلسطينية, تمس وترا عاطفيا لدي الشعب التركي, وهو ما أظهره ارتفاع شعبية أردوعان بنسبة10% في اسبوع واحد, عندما اشتبك مع شيمون بيريز في قمة دافوس قبل عامين. وبدايات ظهور قوي لتيارات في الداخل, تندد بسياسات اسرائيل تجاه الفلسطينيين. اي انها صارت قضية رأي عام في بلاده. وان اقتحام أردوغان هذه الساحة, يدعمه داخليا من ناحية, كما انه من ناحية أخري, يعزز من وضعه في اوروبا, التي ينتمي لها بعضويته في عدد كبير من منظماتها السياسية والاقتصادية والأمنية, ومع حليفته الأولي الولاياتالمتحدة. 3 مافهمته تركيا عن طبيعة التغيير في الاستراتيجية الأمريكية في عهد أوباما, الذي اتخذ من مفهوم الشريكpartner مبدأ أساسيا لسياسته الخارجية. بمعني الشريك القادر علي ان يلعب دورا اقليميا يتجاوز حدود بلده, وذلك بعد ان استقر لدي اعلي أجهزة ومؤسسات الدولة في الولاياتالمتحدة, انها لم تعد تستطيع وحدها, مواجهة التحديات العالمية, إلا بمساعدة الشريك والذي تختلف مع مواصفاته عن الشراكة التي ربطتها مع اوروبا ودول آسيوية, أثناء الحرب الباردة. وكان الصعود التركي هو حصيلة كل هذا, بحيث ان ما بدأ يظهر لنا, انما هو الطرح لنبتة غرست بذورها في تربة السياسة التركية قبل20 عاما.