تدار سياسات بعض القوى الخارجية، التي لها استراتيجيات للسياسة الخارجية، من خلال جهتين إحداهما علنية هي وزارات الخارجية، التي تتحدث باسم الدولة، معبرة عن توجهاتها وعلاقاتها الدولية، والجهة الثانية هي الباب الخلفي للسياسة الخارجية، أو معمل ما يعرف بالعمليات القذرة . واللاعب الرئيس فيها هو أجهزة المخابرات . وعن طريق الجهة الثانية، يتم تنفيذ جانبين من جوانب السياسات، بصورة خفية، هما “الاختراق”، و”الإيحاء” . والجانبان يستخدمان لدفع طرف أجنبي دولة أو تنظيم بطريقة غير مباشرة، لاتخاذ سياسات، أو القيام بعمليات يتخيل من يقوم بها أنها نابعة من ذاته، بينما القوى الخارجية هي من هيأت له أوضاعاً تدفعه نحو القيام بها، خدمة لمصالحها أولاً وأخيراً . ولقد جرى تنفيذ عمليات اختراق منظمات متطرفة، بخاصة من جانب الولاياتالمتحدة، و”إسرائيل”، حيث تدفع كل منهما بعملاء لها، للانتماء إلى هذه المنظمات، ويتخذ هذا العميل لنفسه مظهر الأكثر تشدداً في التنظيم من بقية زملائه . ومن خلال خلق انطباع لدى قيادة التنظيم بإخلاصه وولائه للتنظيم، فإنه يصبح مسموعاً، ويمكنه أن يكون مؤثراً في دفع التنظيم للقيام بعمليات تكون مطلوبة من المخابرات الأجنبية . وهناك نماذج معروفة لذلك، منها ما سبق أن أعلنته الأجهزة الأمنية الفلسطينية، من أن عدد العملاء الذين جندهم جهاز “الشين بيت” “الإسرائيلي”، بلغ 15 ألف فلسطيني . والنموذج الآخر للضابط المصري الذي كان قد هاجر من مصر إلى الولاياتالمتحدة في الثمانينات وتجنس بالجنسية الأمريكية، ثم جندته المخابرات الأمريكية لاختراق الدائرة الضيقة للشيخ عمر عبدالرحمن الذي هاجر هو الآخر للولايات المتحدة . وقد اقترب من الشيخ، وأظهر إخلاصا له . واطمأن له الشيخ، وأطلعه على أسراره، بينما هو يسجل كل كلمة يقولها، وفي النهاية سلم التسجيلات للمخابرات الأمريكية التي اتخذتها دليلاً على خطة لنسف مركز التجارة العالمي، عام ،1993 وإلقائها القبض عليه . وهناك ضباط بالمخابرات الأمريكية نشروا كتابات تكشف عن اختراقهم تنظيم القاعدة في أفغانستان، وأيضاً بعض المنظمات المتطرفة في سيناء . لكل من الولاياتالمتحدة و”إسرائيل”، استراتيجية تمارس من خلالها هذا السلوك، وربما تكون “إسرائيل” أكثر صراحة من الإفصاح عنها، لكن الدولتين يجمعهما في النهاية هدف مشترك هو الحيلولة دون تحول مصر إلى دولة قوية، مؤثرة إقليمياً . ولهذا اتجهت الشكوك نحو تركيز جماعات تطلق على نفسها مسمى إسلامية، على عمليات تستهدف الجيش المصري، وكذلك الأقباط وكنائسهم . ومن الطبيعي أن يدفع هذا إلى طرح السؤال الآتي: هل يتم هذا نتيجة استراتيجية اختراق هذه المنظمات؟ وهل أصابت الغفلة عقول الذين يناصبون هذين الهدفين العداء، بحيث لم يصل إلى علمهم أنهما مستهدفان من “إسرائيل”، وهو أمر مسجل في استراتيجياتها تجاه مصر، والعرب عامة . وعلى سبيل المثال ففي “استراتيجية إسرائيل للثمانينات” نص صريح يقول: لابد أن نعمل على شراء عملاء محليين من أجل تحقيق هدفنا في سيناء . ويكمل هذا الطريق سياسة اختراق المنظمات المتطرفة دينياً . قد ينسب البعض هذه الغفلة إلى عدم فهم قيادات وأفراد هذه المنظمات، لعالم السياسة المعقد، وكيف يدار، وطبيعة استراتيجيات القوى الخارجية، بما في ذلك المعلن منها كسياسة رسمية للدولة، والخفي الذي يعرف بالعمليات القذرة اصطلاحاً، والذي تلعب فيه مخابرات هذه الدول الدور الرئيس . لكن هل أصابتهم الغفلة عن النتائج التي تترتب على استهداف الجيش، والسعي لإضعافه، واستهلاك قواه، وهو ما يعني عملياً تقديم خدمة كبرى للطامعين في مصر، المعادين لشعبها . الجانب الثاني، هو الباب الخلفي للسياسة الخارجية الذي تمارسه بعض القوى الأجنبية والذي يعرف بسياسة الإيحاء، وهي القيام باختلاق أوضاع تمثل في نظر بعض الحكام إغراء يحرضهم على القيام بعمليات يرون عندئذ أن نتائجها مضمونة، فيندفع هذا الحاكم بتأثير قوة دفع الإيحاء المقصود، نحو عمل، قد ينتهي بكارثة تحل عليه . وهو نفس ما فعلته الولاياتالمتحدة مع صدام حسين عام ،1980 حين رتبت تسلل عناصر من الجيش الإيراني، عبر الحدود إلى العراق، بادعاء أنهم منشقون عن بلدهم . وقدموا لصدام معلومات وخرائط مزيفة عن الوضع العسكري في إيران، تصور له أن جيش إيران سوف ينهار خلال أيام، أمام هجوم عسكري عراقي . كان هدف الولاياتالمتحدة استنزاف القدرات العسكرية للدولتين، العراق وإيران . ووقع صدام في الفخ، ودخل حرباً دامت ثماني سنوات . وبذلك حققت الخطة الأمريكية هدفها . وحسب وثائق هذه الحرب، فقد كانت أمريكا تزود صدام بالسلاح، وعلى الناحية الأخرى تتولى “إسرائيل” مشتريات السلاح لإيران من الأسواق العالمية . إن القوى الكبرى لديها سياسات للتلاعب بالهواة في عالم السياسة، وهي تجد أمثال هؤلاء المغيبين صيداً ثميناً، تدفع بهم من دون أن يعلموا في الاتجاه الذي يخدم مصالحها وبطريقة تجعلهم يتوهمون أنهم صانعو الحدث الذي يقفون في قلب ميدانه . لقد أعلنت في أوروبا وأمريكا بعد ثورة 25 يناير، توقعات للساسة والخبراء، بأن مصر، في حالة قيام حكم وطني رشيد بها، سوف تصبح دولة قوية، وتستعيد دورها الإقليمي، وهو ما كان يمثل تصادماً مع الحسابات الاستراتيجية لقوى إقليمية ودولية لا تريد ذلك لمصر . وإذا كنا قد لاحظنا كيف أن عمليات العداء العنيف للهدفين: الجيش المصري، والكنائس في مصر، قد شهدت تصعيداً خطيراً، بخاصة بعد ظهور عناصر من “تنظيم القاعدة” في المظاهرات المسلحة في القاهرة، والمحافظات، وفي العمليات المعادية للدولة والجيش في سيناء، فقد كان المنطق يدفع للنظر إلى خطط وسياسات معروفة للتعامل مع مثل هذه المواقف، لدى كل من الولاياتالمتحدة و”إسرائيل” التي تعتمد على تنفيذ سياسات الإيحاء والاختراق المخابراتي لتنظيمات متطرفة، مفتقدة للحس الوطني، والوعي والإدراك السياسي والفكري . نقلا عن صحيفة الخليج