بقلم ربان: محمد بهي الدين مندور عندما يجاوز الظالموت المدي، تنفجر ثورات الشعوب الحية مستهدفة التغيير الفوري والجذري لإسقاط الطغاة ولاسقاط النظم الحاكمة المستبدة الفاسدة. فإذا ما سقطوا يتابع المد الثوري مسيرته مستهدفًا التغيير الاقتصادي والاجتماعي وذلك من خلال إعادة بناء مؤسسات المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. وأخلافيا. ويرتكز نجاح هذا التغيير الشامل علي التحرك السريع والمتواصل لتأمين الثورات أمنيا واقتصاديا في مواجهة الثورات المضادة والتدخلات الخارجية. وايضًا يتوقف نجاح التغيير الشامل علي سرعة تحرك حكومات الثورات في مسارات متوازية لاختيار قيادات ثورية شابة وفق معايير موضوعية لكي تتولي مسئولية إعادة بناء تلك المؤسسات لاسيما الحكومية منها. وما لم تبادر تلك القيادات الثورية الجديدة بتطهير تلك المؤسسات من بطانات الرئاسات المخلوعة، فإن نفس تلك البطانات تستمر قابضة علي مقاليد الأمور مع استمرار المناخ الفاسد الذي كان سائدًا في تلك المؤسسات قبل اندلاع الثورات. وهكذا تنتكس البلاد لتتقهقر إلي الربع الأول بل إن لم يكن إلي ما هو اسوأ منه.. وكأنك يا أبوزيد ما غزيت. ومثال ذلك في مصر هو ما يحدث في دواوين بعض الوزارات التي لم تفهم بعد ثورة يناير.. وربما لن ولا تريد أن تفهمها. وإلي القارئ المثال التالي عن بيروقراطية وزارة النقل. 1 المفروض بعد الثورة أن يهتم كل وزير بوضع البرامج التي تتواءم مع الأهداف والسياسات العامة والمعايير التي من المفروض أن تضعها حكومة الثورة. والمفروض أن يبدأ كل وزير بإعادة تنظيم القطاعات التابعة له والتأكد من أمانة وكفاءة شاغلي الوظائف الحاكمة في ديوان وزارته. وإذا ما شاب بعض المشروعات القومية الكبري فساد قبل الثورة، فإن أقل ما يوصف به الحال انها رخاوة وتمييع لا يتفقان مع مبادئ الثورة بل سيشدها إلي الوراء. 2 ومن أهم المشروعات القومية الكبري قبل الثورة »مشروع شرق التفريعة« في بورسعيد الذي فتح ملفه منذ أكثر من ستة عشر عامًا. ويرتكز هذا المشروع علي جناحين: الأول تشييد ميناء محوري عالمي علي مساحة نحو 22 مليون متر مربع يخصص بأكمله لتداول حاويات بضائع الترانزيت. والثاني منطقة حرة صناعية اقتصادية خصص لها نحو 87 مليون متر مربع في ظهير الميناء المحوري الممتد في غرب سيناء. 3 اهملت حكومات الجنزوري وعبيد ونظيف جناح المنطقة الصناعية ربما لأنه أكبر من قدرات ورؤي تلك الحكومات واهتمت بجناح تشييد الميناء المحوري. وقد تحملت مصر بمفردها تكاليف تشييد الميناء وتم تأسيس »شركة قناة السويس للحاويات« لإدارة محطة الحاويات تشغيلاً وتسويقًا. وفي الوقت الحاضر أصبح رأس مال الشركة المدفوع خمسة وخمسين مليون دولار موزعًا كما يلي: خمسة وخمسون في المائة لمجموعة »أ. ب. موللر« الدنمركية وعشرون في المائة »لشركة كوسكو باسيفيك« الصينية وعشرة في المائة لهيئة قناة السويس وخمسة في المائة للبنك الأهلي وعشرة في المائة للقطاع الخاص المصري أصبح معظمها في حوزة محمد منصور وأحمد المغربي الوزيرين السابقين وأغلبها مشتراة من حصة إبراهيم كامل الرئيس السابق لمجلس إدارة الشركة. أما كارثة مد امتياز الشركة من 30 إلي 49 سنة فالمسئول عنها الثلاثي إبراهيم كامل ومنصور وزير النقل ونظيف رئيس الوزراء الأسبقين. إن مدة هذا الامتياز أمر غير مسبوق في عقود إدارة المواني المحورية علي مستوي العالم. وقد حققت »شركة قناة السويس للحاويات« المصرية الجنسية التي يملكها الأجانب بنسبة 75 في المائة حققت صافي أرباح خمسة وخمسين مليون دولار بميزانية 2010 فاستعاد المساهمون ما دفعوه من رأس المال في سنة واحدة!!. 4 في مايو 2010 كتبت مقالا بعنوان: »ميناء شرق بورسعيد.. أين المصريون؟!« تضمن وقائع مد الامتياز إلي 49 سنة. وفي 2010/5/13 أرفقته بخطاب أرسلته إلي رئيس الوزراء نظيف منبها إلي خطورة مد الامتياز حتي عام 2053. كما أرسلت نفس المقال إلي كل من رئيس الجمهورية ووزير النقل.. وكالعادة لم يتحرك أحد. أرسلت المقال إلي الجرائد اليومية فلم تنشره ولو حتي كخبر عن كارثة مد الامتياز إلي 49 سنة وهو الأمر الذي يهم كل المصريين. وبتاريخ 2010/6/6، انفردت صحيفة »العالم اليوم« بنشر معظم المقال بعددها 5915. وأيضًا لم يتحرك أحد. 5 فجأة اندلعت ثورة 25 يناير ثم نشرت الصحف خبرًا بإحالة عقد ميناء السخنة إلي النائب العام نفي وزير النقل الخبر فيما بعد فأرسلت في 2011/3/9، برقية إلي كل من رئيس الوزراء ووزير النقل بأنه كان من الأولي احالة عقد »شركة قناة السويس للحاويات« إلي النائب العام لاحتكار الشركة إدارة محطة حاويات شرق بورسعيد لمدة 49 سنة، وطلبت أخذ أقوال إبراهيم كامل.. ولم يتحرك أحد. 6 بعد مرور 42 يوم علي إرسال البرقية بعاليه، تلقيت ردًا برقم 445 من إدارة خدمة المواطنين بتالهيئة العامة لموانئ بورسعيد »تخطيطني علمًا بأن: موضوع البرقية بشأن احتكار الشركة لإدارة محطة الحاويات لمدة 49 سنة هو قيد الدراسة بمكتب المهندس وزير النقل. 7 بتاريخ 17 ابريل أرسلت إلي كل من رئيس الوزراء ووزير النقل مظروفًا بالبريد يحوي صورة البرقية بعاليه مرفقًا بها مقال »ميناء شرق بورسعيد.. أين المصريون« والذي تضمن وقائع تأسيس« شركة قناة السويس للحاويات« علي مر حكومات (الجنزوري عبيد نظيف) ودور محمد منصور وزير النقل الأسبق في مد عقد الامتياز لمدة 49 عامًا تنتهي في عام 2053. بتاريخ 30 ابريل أعادت مصلحة البريد المظروف المرسل إلي وزير النقل وذلك بعد فتحه وإغلاقه بمعرفة ديوان وزارة النقل ومكتوبًا عليه.. »برجاء توضيح أكثر لمضمون الطلب أو الموضوع«. وبتاريخ 5/2 أرسلت برقية إلي رئيس الوزراء ووزير النقل تتضمن وقائع البنود بعاليه.. ولقد اسمعت إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي. 8 تجدر الإشارة هنا إلي أن »جريدة الوفد« نشرت في 4/7 مقالاً بعنوان »المليارات العائمة لجمال مبارك وشلته جهات مهمة حددت الخيط لشركات النقل البحري« وقد تضمن المقال أسماء أسامة الشريف فلسطيني وعمر طنطاوي ومحمد الحلوجي مصريين ونبذة عن أدوارهم في ميناء السخنة. أما جريدة الأهرام فقد نشرت في 4/9 مقالا بعنوان »قتل شركة وطنية فساد إداري وسرقة علنية بميناء شرق التعريفة«. وبتاريخ 2011/4/25 كتب مصطفي بكري في »جريدة الأسبوع« مقالاً بعنوان: »في عقد امتياز شرق التفريعة.. حكومة نظيف أهدرت عشرة مليارات جنيه لصالح إبراهيم كامل«. وكانت »الأحرار« والعالم اليوم هما الجريدتان الوحيدتان اللتان انفردتا بفتح صفحاتمها منذ أكثر من عشر سنوات للتحذير من رهن محطات حاويات في موانئ الإسكندرية ودمياط وبورسعيد للمستثمرين الأجانب لعشرات السنين بدعوي جذب الاستثمارات الأجنبية وذلك إلي حد رهن محطة حاويات شرق بورسعيد لمدة 49 عامًا!!.. والنتيجة المعتادة.. لقد أسمعت إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي لا قبل ثورة 25 يناير ولا بعد ثورة 25 يناير. بل حتي هذه السطور قد لا تري النور في صحافتنا المقروءة. 9 وبتاريخ 2011/5/2 بجريدة »الأحرار« تناول د. صلاح قبضايا في أسبوعياته موضوع كارثة امتياز ال 49 سنة تحت عنوان: »من شرق بورسعيد.. إلي النائب العام. كما نشرت جريدة الأسبوع بعدد 9 مايو 2011 مقالاً بعنوان.. »ميناء شرق ورسعيد المحوري... تكرار تجربة ديلسبس«. في النهاية إنني أدرك تمامًا إن الحكومة قد لا تتمكن من إرجاع عقارب الساعة إلي الوراء خوفًا من لجوء الأجانب إلي فزاعة التحكيم الدولي. ولذلك فإنني أدعو الحكومة إلي التفاوض مع الشركة الأجنبية لتصحيح مدة الامتياز مع التمسك بمجموعة » أ. ب. موللر« التي تمتلك أكبر اسطول ناقلات حاويات في العالم وذلك لإدارة »شركة قناة السويس للحاويات«. ولن يستطيع قطاع النقل البحري ولا القطاع الخاص المصري أن يدير ميناء شرق بورسعيد بنفس كفاءة الدنماركيين. وإذا ما فشلت المفاوضات يمكن أن تستعين الحكومة المصرية بمكاتب استشارية عالمية تمتلك من خبرات التعامل مع مراكز التحكيم الدولية ما لا يملكه المصريون بعد من الخبرات الفنية والإدارية والقانونية البحرية وذلك حتي يتم إعداد جيل مصري من الخبراء المصريين ليحلوا محل ضباط معاشات القوات البحرية الذين يحتكرون المراكز الحاكمة في قطاع النقل البحري منذ أن تولي السادات رئاسة مصر ووصولا إلي الأعوام الثلاثين من حكم مبارك وحتي كتابة هذه السوطر.. ولك الله يا مصر.