خلف بوابة تعلوها لافتة «أهلا بك في مركز ومدينة الشيخ زويد» تبدو على جانبي الطريق بقايا «إطارات مشتعلة» تضيف سوادا إلى سواد المشهد الصامت حتى وصولك إلى معبر «رفح»، على جانبي الطريق بقاع سكنية ومساحات شاسعة يختلط فيها لون الحشائش والزروع الخضراء بلون الرمال الصفراء مبهمة المعالم، وعلى امتداد الطريق ترتسم ملامح الحزن على جنود «نقاط التفتيش»،حتى تبلغ ذروتها في وجوه قوة تأمين المعبر. على مرمى البصر قبل وصولك إلى المعبر تبدو حالة تأهب نسبي على وجوه الجنود، ويطرح السؤال التقليدي «إنت مين؟»، الترحيب مشهد متكرر ب«الإعلاميين والصحفيين»، وتيسير المرور ل«السكان المجاورين» للمعبر سمة يومية بغض النظر عن «المأساة الحاضرة» هناك. قبل عدة أمتار من البوابة الرئيسية ل«ميناء رفح البري» ترقب عيناك بضعة لافتات تحمل تساؤلات الجنود «فين مرسي وفين قنديل..وفين إخواتنا المخطوفين» كأبسط رد فعل يمكن أن يلاحظ في تصرف زملاء «السبعة المختطفين»، ويبطل العجب إذا علمت أن كل المجندين هنالك دفعة واحدة بدأت فترتها التجنيدية قبل شهرين، وكانوا عائدين معا من الإجازة الثانية لهم، لولا أن القدر ساق «المخطوفين» إلى التبكير بالعودة للمعبر في يوم الأربعاء الأسود. خلف البوابة التي تحجب أسر «المجندين» «اعتصاما» على خطف أبنائهم لليوم الثالث على التوالي، تتراص المقاعد في مقدمة المدخل، عن اليمين تجلس أسرة المجند «أحمد بديع» –أحد أبناء الشرقية –مسقط رأس الرئيس مرسي، وفي المقابل تجلس أسرة «أحمد محمد عبدالحميد» رفيق النشأة والموطن والتجنيد والخطف، وبينهما يجلس الجنود «المكلومون»، يظهر نشيج صوت أحد أمناء الشرطة مثيراً للبكاء بعبارة تكشف انكساره «احنا رخاص أوي ليه؟»..ليدخل الجميع في نوبة «بكاء» كان لابد أن تقطعها الأسئلة الحائرة. يستطرد الأمين قائلا «لم يتضامن معنا أحد من القوى الثورية، ولا من الشعب ونشعر بالمذلة». زائغة كانت نظرات «أم أحمد عبدالبديع»، تغالبها الدموع التي تسابق قطرات الحبر على الورق، كلما ذكرت مشهد ابنها الذي عودها باتصالات متقطعة منذ خروجه من منزله اتساقا مع محطات السفر إلى معبر «رفح» منطقة تجنيده. تقول الأم ذات الوجه الشاحب جراء سهر متواصل قرابة 5أيام «آخر مرة اتصلت بابني قال لي «أنا في العريش»، وبعدها كررت الاتصال به حتى الساعة الواحدة لكن هاتفه «ظل مغلقا طوال الوقت»،لم أكن اعرف شيئا عن واقعة الخطف، لكن شيئا من القلق خالط قلبي فأبلغت أقاربه وجئنا للاطمئنان عليه وهنا «أبلغنا بنبأ اختطافه» ودخلنا في اعتصام حتى الآن. الأم التي فارقت ابنها الأكبر وعائل شقيقات ثمانية تقول «قلت لابني مترحش الجيش، واقعد اصرف على أخواتك».. فرد قائلا «أنا هخدم بلدي وأؤدي واجبي». «المعبر مش هيتفتح إلا على جثتنا».. هكذا استطردت أم «المجند المخطوف»، معلنة عن دخولها في إضراب عن الطعام حتى إطلاق سراح ولدها، وباعثة برسالة إلى مرسي ونظامه «ربنا يحرق قلوبكم على ولادكم». يتدخل عم أحمد «عبدالواحد محمد محمود» قائلا: «لو ابن أخويا جرا له حاجة، لا مرسي ولاغيره هيكفيني، والعسكري الإسرائيلي بيفدوه بألف عسكري، طب ليه ولادنا مش غاليين كده». تختتم الأم حديثها قائلة بنبرة أسى بالغة متبوعة بصمت تكسوه الدموع «احنا تعبنا ياولاد». على المقعد المقابل كان «محمد عبدالحميد» يجلس واضعا رأسه بين يديه، وإلى جواره شقيقه، يبدأ والد «أحمد محمد عبدالحميد» المجند المخطوف حديثه قائلا «ابني صديق أحمد عبدالبديع وبلدياته والاتنين اتخطفوا سوا»، يصمت قليلا متجولا ببصره في أرجاء المعبر ويستطرد قائلا «احنا عاوزين عيالنا، ومفيش أي مسئول جالنا واحنا قاعدين من يوم الأربعاء ومعندناش معلومات». يقول الوالد «ابني لو في وكر يجيبوه جثة، واحنا موافقين، لأنه ليس منطقي التفاوض مع مجرمين». يتدخل عم «أحمد عبد الحميد» قائلا «ذهبنا إلى مدير أمن شمال سيناء وتهرب منا، وطلبنا النجدة مفيش حد عبرنا، ولم نحصل على معلومة منذ اختطاف أولادنا». يستكمل الوالد حديثه قائلا «لو ابني مات هتبقى حرب أهلية، وأريد أن أقول لمرسي «سيبك من فلسطين وانتبه للجنود،لأن لو ابنك مخطوف مش هتقعد ع الكرسي بتاعك، ومش هنسيب المعبر غير لما نبقى جثث». ويضيف «أنا عسكري وابني عسكري، وأنا شغال في شرطة المرافق في الاسماعيلية، وكله بايظ والتسليح تعبان، وابني راح النهاردة وأنا بكره هروح». أحمد عبد الحميد الذي هدد باقتحام كوبري السلام في حال اختفاء ابنه للأبد أو تباطؤ الأجهزة الأمنية في العثور عليه قال «احنا ضد التفاوض، ومحدش يلوي دراعنا، وابني له الشرف أنه يموت فداء لبلاده». هزلية رد الفعل الرسمي في التواصل مع أسر الجنود المختطفين تضيف انهزاما فوق الانهزام، ليس للأسر فقط، وإنما للجنود الذين تنطوي صدورهم على بركان غضب قابل للانفجار في أقرب وقت. عن المجندين المختطفين يتحدث زملاء «الدفعة»، رسالة واحدة يحملونها استثناء على معلومات من الخطورة بمكان في ملابسات الحادث، تبدو الرسالة في «لن نفتح المعبر إلا على جثتنا والقضية لن تنتهي بعودة زملائنا،لأن لهم حقوقاً لابد أن تأتي». يقول المجندون «إن سائقي الميكروباص أبلغوا قبل الحادث بساعات عن إجراءات تفتيش على الطريق من العريش إلى «رفح»، ورفضوا ركوب المجندين خوفا عليهم قبيل الحادث، في الوقت الذي لم تنتبه فيه الأجهزة الأمنية لهذا التنبيه». وأضافوا: بعدها تلقينا اتصالات من قيادات المعبر تحمل أوامر ب«المبيت» في المحافظة تفاديا لمزيد من الاختطاف. «في رقبة محمد مرسي أرواح المجندين» مسلمة يعتقدها المجندون، والمسئولون أبدوا تهاونا في التعامل مع الحادث لكن المعبر هو سبيلنا الوحيد للضغط ولن نفتحه مهما كانت التهديدات. أربع صور مذيلة بأسماء المجندين حاضرة دائما داخل المعبر، وثلاثة «مختطفين» أحدهما من حرس الحدود، واثنان من الأمن المركزي، وحسبما أفاد أحد «الجنود» فإن أسرتي ثنائي الأمن المركزي «المختطفين» لا تعلمان شيئا، ربما لأنهما لم تنضما للاعتصام حتى الآن. بينما الجندي «إبراهيم صبحي» التابع لحرس الحدود حضرت أسرته وغادرت مساء أمس دون إبداء أسباب. تخفت الهتافات وتعلو كلما اقترب أحد من بوابة المعبر، الغليان يبلغ مداه بينما الحناجر المتحشرجة لا تسعف الهاتفين في إبلاغ هتافاتهم. من خارج بوابة «ميناء رفح البري»، يتحدث كمال أبوبخيت الناشط السيناوي –للمعتصمين والجنود «افتحوا المعبر لأن ده أكل عيش»، ولو عايزين تعتصموا يبقى عند «مديرية الأمن» أغلقوا أبوابها على مدير أمن شمال سيناء. «اطلع برة»..كان هذا هو رد فعل المجندين والمعتصمين من اسر المختطفين ردا على «أبوبخيت» ذو اللحية السوداء، والنبرة الحادة في الحديث، تطور الموقف إلى خروج مفاجئ للاعتداء عليه، وبعدها أجرى الناشط السيناوي اتصالا ب«ذويه» داعيا للتجمهر أمام المعبر ردا على واقعة الاعتداء. «لا أنتمي لأحزاب سلفية..وترشحت لمجلس الشعب مستقلا الدورة الماضية» كان هذا هو التعليق الأول ل«السيناوي كمال أبو بخيت»، متبوعا بتأكيد على «كذب ادعاءات التفاوض»، لافتا إلى أن قبيلة «أبوشيتة» وتنظيم السلفية الجهادية ليسا مسئولين عن «اختطاف الجنود». وأضاف في تصريح ل«الوفد» أن الاعتصام الحالي لأسر المجندين لن يسفر عن شيء، مشيرا إلى أن شيوخ القبائل منذ أمس في حالة استنفار للوصول إلى مكان اختطاف الجنود. واستطرد قائلا «غلق المعبر ليس حلا لأنه يقطع أرزاق الناس، ويمنع المرضى من الوصول للمستشفيات». وتساءل «لماذا يصورون أبناء سيناء على أنهم قتلة وسارقون، وتجار سلاح ومخدرات؟». وأشار أبوبخيت إلى أن ملابسات الاختطاف ربما تأتي من ناحية الضغط من أجل اسقاط أحكام الإعدام عن أبناء سيناء ال«14»، أو ربما لشيء آخر، لكننا لانعلم تحديدا الأسباب الحقيقية للخطف. ثمة محاولات منزوعة «النجاح» أجرتها بعض القيادات الأمنية لتخفيف حدة الغضب المسيطر على المجندين، قوبلت تلك المحاولات بهتاف «بالروح بالدم نفديكي ياسيناء» و«شهداء..شهداء» في إشارة واضحة لاستمرار الغضب حتى الإفراج عن المحتجزين. ثمة تناقض واضح بين الأجواء خلف البوابة التي تحجب الأسر الغاضبة والرفاق «الحائرين»، ومحيط المعبر الذي يشهد ارتباكا واضحا في التعامل مع الموقف الذي يزداد سخونة ويتجه إلى الانفجار. هنا في ميناء رفح البري..تلتقي أحزان «الخطف» مع ذكريات «اغتيال» جنود رفح ال«16»، وبينهما يقتسم حكم محمد مرسي «خيبة الأمل» الحاضرة في تعامل نظامه مع المشهدين.