«البلاك بلوك» كانت مجرد فكرة احتجاجية للتعبير عن غضب الثائرين علي اختطاف أو مصادرة حرياتهم.. ولأن الأفكار مثلها مثل الأحلام الثورية لا تموت تشهد بلدان الربيع العربي حالياً ما يمكن أن نسميه انتفاضة «الهارلم شايك»، وهي رقصة احتجاجية يقوم بها شخص واحد أمام جمع من الناس الذين يظهرون لامبالاة في البداية ثم تتحول الرقصة الفردية خلال ثوان إلي رقصة احتجاجية جماعية بطريقة غريبة يرتدي فيها الراقصون أقنعة علي وجوههم ويقومون بحركات غير متناسقة أو منظمة، وقد أثارت هذه الرقصة في تونس جدلاً كبيراً بعد غزوها للمدارس والجامعات والأماكن العمومية، وراحت تغزو شباب مصر دون أن يلتفت إليها أحد. وظهرت رقصة الهارلم شايك الحقيقية في الثمانينيات في الحي الشعبي هارلم بمدينة نيويوركالأمريكية، حيث قام فيها فيلثي فرانك الياباني بتصوير أول فيديو هارلم شايك كتقليد للرقصة الأمريكية hip hop التي ظهرت في أوائل الثمانينيات ولاقت الرقصة رواجا هائلا في جميع أنحاء العالم مما جعل موظفي سفارة الولاياتالمتحدةالأمريكية في الجزائر يقدمون مقطع فيديو يؤدّون فيه الهارلم شايك من داخل مكاتب السفارة، وهو ما صنع الحدث الذي جعل عددا كبيرا من المؤسسات الرسمية والتعليمية والجامعية في أوروبا وأمريكا واليابان وباقي أنحاء العالم يقلدونها حتي إنه ظهر فيديو هارلم شايك قدمه عسكريون بالزي الرسمي أثناء التدريب. والهارلم شايك لا تتضمن رسالة واحدة بل هي خلطة من رسائل الشباب الغاضب الذي اختار أسلوب الصدمة من خلال رقصته المتضمنة للكثير من الايحاءات المعبرة عن الرفض والتحدي، وجاءت هذه الرقصة التي قررها تلاميذ تونس الأسبوع الماضي كرد فعل علي تصريحات وزير التربية بعد أن رقص تلاميذ معهد الإمام مسلم بالمنزه «الهارلم شايك»، حيث بدأ التلاميذ في التواجد أمام وزارة التربية وارتدوا ملابس تنكرية، حيث ظهرت إحدي الفتيات بملابس شيخ واختار أحد التلاميذ أن يضع علي رأسه كيساً من الكرتون، فيما ارتدي أحدهم قناع «أنينيموس» وانطلقوا في الرقص هاتفين «هارلم شايك.. هارلم شايك» ورغم نزول المطر لم ينقطعوا عن الرقص دفاعاً عن حرية التعبير والتفكير التي أصبحت مهددة في تونس. وكالعادة انتقلت العدوي من تونس إلي مصر بتجمع عدد من الشباب، مساء الخميس الماضي أمام مقر جماعة «الإخوان المسلمين» بالمقطم وقاموا بأداء رقصة «هارلم شايك» تحت شعار «مستمرين وفي السخرية مبدعين». ومما يثير العجب أن تظهر مثل هذه الظواهر الغريبة في سماء بلادنا وتختفي دون أن تحرك ساكناً لمثقفينا أو حتي منظمات المجتمع المدني، ناهيك عن القوي الحاكمة، رغم استهدافها ل «مفاصل» عقول شبابنا التي ينبغي أن تحظي بأولوية متقدمة علي معركة الاستحواذ علي مفاصل الدولة التي تشغل جماعة الإخوان، بل إن الإعلام المصري نفسه لم يهتم هذه الظاهرة قدر اهتمام الإعلام الأجنبي، فبينما يجري التجاهل محلياً نجد صحيفة (نيويرك تايمز) الأمريكية تقول: إنه علي الرغم من حالة الكآبة التي تهيمن علي الربيع العربي إلا أنه لم يفقد روح الدعابة، وظهر ذلك جليًا في الاحتجاجات الراقصة في تونس وانتقلت إلي مصر الآن.. وتضيف الصحيفة: إن الثورات العربية تمر بمرحلة صعبة، من عدم اليقين السياسي في شمال أفريقيا إلي المذابح اليومية في سوريا، فيبدو أن مصر، في بعض الأحيان، علي شفا انهيار اقتصادي أو انقلاب عسكري، وتونس لا تزال تعاني من الاغتيالات السياسية وعدم الاستقرار، مما أدي إلي هيمنة الشعور بالاكتئاب علي العديد من المواطنين العاديين في كلا البلدين. وحسب الصحيفة فإن شعوب الربيع العربي بدأت بالتعبير عن غضبها من خلال هذه الرقصة الغريبة التي انتقلت إلي الشرق الأوسط، ولكن بشكل مطور، فبعد أن كانت تقتصر تلك الرقصة علي الأشخاص المقبوض عليهم أو في ورطة، حولها الربيع العربي إلي نوع جديد من الاحتجاج السياسي. وسيظل حراكنا الثقافي والتنويري في غيبوبة متصلة منذ هبوب رياح التغيير في مصر والمنطقة العربية رغم ما تسببت فيه رقصة هارلم شايك الجنونية من فصل طلاب من مدارسهم وجامعاتهم واعتقال وسجن وفتح ملفات تحقيق بحق راقصيها حول العالم، وفي العالم العربي أصابت حمي هارلم شايك الشباب فصوروا مقاطع راقصة أمام الأهرامات وفي بعض بلدان الخليج ولبنان والمغرب العربي، وتسببت باعتقال أربعة من ضحاياها في مصر الذين حاولوا تصوير نسختهم عنها في حي العجوزة، إلا أن تعريهم أثار غضب القاطنين فيه ما أدي لتدخل الشرطة وتوقيف الطلاب الجامعيين. ليس هذا فحسب بل غزت رقصة هارلم شايك أروقة العالم الافتراضي منذ مطلع الشهر الماضي، ليسجل الفيديو الأصلي لها أكثر من آلاف النسخ عنها حول العالم، رغم أن كلمات الأغنية بالإسبانية «Con lo terroristas» وتعني حرفياً: «مع الإرهابيين»، ولكن شبابنا لا يدرك هذا المعني الحرفي ويندفع في التقليد الأعمي متسلحاً بالعاطفة الثورية المتأججة في غيبة مشروع وطني يحتضنه سواء من النظام أو من قبل القوي الفاعلة في المجتمع.