(نعانى من تدهور فى كل شيء) ... وقفة قبل المنحدر 1995 [ميدان الأوبرا 1999] كانت الساعة تشير إلى الثالثة من عصر يوم قاهري حار جدًا، عندما كنت أسير مع صديق لي اسمه فكري في طريقنا بشارع قصر النيل، نتبادل الحديث عن الكاتب الكبير علاء الديب وشخصيته الإنسانية المتفردة، وأعماله القصصية والروائية الرائعة خاصة كتابه المدهش (وقفة قبل المنحدر الصادر 1995) حيث نتجه الآن ويراودنا الأمل إلى سور الأزبكية للحصول عليه من باعة الكتب القديمة! وصلنا عند تقاطع شارع قصر النيل مع شارع الجمهورية. وأمام مسجد تاريخي توقف صديقي وسألنى! ألا يُذكرك اسم هذا المسجد بشيء ما؟ قلت لا! - رد منفعلًا: هذا المسجد اسمه الكيخيا (عندما ذكر الاسم عرفت مقصده) ثم واصل قوله: "أنشأ هذا المسجد عام 1734 ميلادية أيام الدولة العثمانية" ثم سكت قليلًا عندما ارتفع صوت آذان العصر قبل أن يقول: "هل سمعت عن السياسي الليبي منصور الكيخيا الذى اختفي قسريًا من شوارع القاهرة قبل ثلاث سنوات، بعدما خُطف من فندق شهير بحي الدقي على يد أجهزة مخابرات الأخ العقيد معمر القذافي وتم ترحيله لليبيا وقتله بعد ذلك بعدة سنوات، لا لشيء؛ إلا لأنه كان يطالب بالديمقراطية، والعدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان؟! هززت رأسي، وأنا أُذكره، وأُذكر نفسي، بما كتبه علاء الديب (1939 - 1916) في كتابه "وقفة قبل المنحدر" كنت قد قرأته عند صديق ورفض إعارته لي عندما قال: "لا أستطيع أن أفهم كيف يتحول حب الوطن أو الدفاع عنه إلى سيف مصُلت على رقاب العباد"! كنا والحديث بيننا يتواصل نتكلم عن السيف والسياف، والرقاب والعباد، والوطن والمواطن، والعدالة والمظالم، والديمقراطية والاستبداد، حتى وصلنا إلى سور الأزبكية، لنبدأ رحلة بحث مضنية، وشاقة، للعثور على نسخة من الكتاب، لكن للأسف لم ننجح وعدنا مثلما ذهبنا! *** [القاهرة 1995] في هذا العام صدر كتابه سيرته الذاتية وقفة قصيرة قبل المنحدر .. من أوراق مثقف مصري. وفيه لخص حياتنا السياسية، والثقافية، والاجتماعية، وما مر بها من تقلبات، وانتصارات، وانكسارات منذ يوليو 1952 وحتى 1982. هذه التقلبات جعلته يكتب "هذه أوراق حقيقية، دم طازج ينزف من جرح جديد. كتابتها كانت بديلًا للانتحار" ثم يسأل نفسه ويسألنا: "ماذا حدث لنا في تلك السنوات (1952 1982)؟ ماذا حدث للناس وللبلد؟ من أين لإنسان يشعر ويفكر أن يحتمل في حياته كل هذه التقلبات والتغيرات؟ أليس من حق الإنسان أن يلتقط أنفاسه، وينعم بحياة مستقرة بعض الشيء، هادئة بعض الشيء، مفهومة بعض الشيء"؟ ويقول عن المثقف: "المثقف تركيبة غريبة تطمح دائمًا إلى أن تعيش في المعاني المطلقة والمجردة للأشياء. ويقول عن الصحفي: "أيقنت أن حرفة الصحافة أو الكتابة، حرفة ناقصة في بلادنا وفي عصرنا" ويقول عن الكاتب: "الأجر الوحيد الذي يحصل عليه الكاتب هو أن يفرح، وهو يرى كلماته وقد تحولت إلى مخلوقات على الورق" ويقول عن الفنان: "لا معنى للأديب أو الفنان الذي يكتب لكي يقرأ له الأصدقاء.. أو ليوزع من كتاب طبعه على حسابه مائة نسخة "ويقول عن هزيمة 67 : "قتلتني.. ومن يومها وأنا ميت، لم أعش بعدها يومًا حقيقيًا كاملًا". ويقول عن اتفاقية كامب ديفيد: "كانت صدمة كهربائية"! *** [الدقي يناير 2004] أجلس في الصحيفة التي أعمل بها. الساعة السادسة مساءً تقريبًا. أمسك سماعة التليفون الأرضي. اتصل الآن بمنزل الكاتب علاء الديب. ألوه ألوه .. لا أحد يرد. أضع السماعة، وأحتسي فنجان شاي ساخن، أطرد به الإحباط، وأفكار وتعليمات رئيس التحرير، وبرد الشتاء، ثم أغادر عائدًا لمنزلي في حدائق المعادي. *** [الدقي بعد مرور عامين] ألوه ألوه (الآن السماعة ترفع) ألوه الأستاذ علاء الديب أيوه .. اتفضل .. مين؟ أنا .......... وأريد مقابلة صحفية مع حضرتك للجريدة. "حاضر .. أسبوع كدة .. وكلمني نتفق على الحوار، لأني تعبان شوية". بعد أسبوع اتصلت. الأستاذ علاء يكرر ترحيبه بي وبالصحيفة. ثم يقول: "دعنا نرتب موعد في القريب العاجل، عندما تتحسن ظروفي الصحية". ألف سلامة عليك يا أستاذ..ثم أغلقنا الخط. *** [المعادي 2010 ] .. ومرت سنوات حتى جاء هذا العام الذي بدأ فيه عرض برنامج "عصير الكتب" على قناة دريم، أيام ما كان لدينا عصير، وأيام ما كان لدينا كتب، وأيام ما كان لدينا دريم. وكان فريق العمل يتكون من بلال فضل (صاحب الفكرة والتقديم) والناقد شعبان يوسف. والمخرج حلمى عبدالمجيد. ومساعده محمد الصغير. والكاتب شريف عبدالمجيد. وخيري حسن. في هذا الوقت عاودت الاتصال مرة أخرى. ألوه.. ألوه أهلًا وسهلًا.. نحن برنامج "عصير الكتب" ويُسعدنا تسجيل حلقة مع حضرتك. بعد الترحيب، والكلمات المهذبة، والمشجعة، والداعمة لفريق العمل البرنامج يحمل اسم بابه الشهير فى مجلة صباح الخير منذ عام 1968 قال بصوته الهامس: "طيب..الحقيقة أنا ظروفي الصحية لا تسمح بالتسجيل الآن، وأرجو أن تتصل بي مرة أخري ونحدد موعد آخر".. ثم أغلقنا الخط! *** [القاهرة 2016] ومرت سنوات أخري فُصلت فيها من الصحيفة التى كنت أعمل بها عدت بعد 6 سنوات وانطلقت للعمل بالفضائيات، وانتقلت من شقتى البعيدة بعض الشيء عن منزل علاء الديب إلى شارع لا يبعد عن بيته إلا 3 دقائق سيرًا على الأقدام. ورغم قرب المسافة لكنني لسوء حظى لم أعرف مكان بيته، والسبب هو عدم لقائي به طيلة هذه السنوات، رغم محاولاتي المتكررة، حيث شاء القدر أن يرحل عن دنيانا قبل وصولي إليه! *** [المعادي 2020 ] أجلس على مقهى بشارع(9). الساعة الآن الخامسة مساءً. أطلب رقم الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد، لأمر لا أذكره الآن! أهلا .. يا خيري أين أنت يا أستاذ؟ في طريقي لمنزل علاء الديب - (اليوم 18 يناير) ذكرى رحيله. عظيم.. هل من الممكن أن تعطيني العنوان حتى نلتقي هناك وأشارك في حبكم لهذا المثقف والكاتب والإنسان العظيم. "للأسف أنا لا أعرف العنوان بالظبط (بتوه فيه دائمًا رغم مئات المرات التي زرته فيها) وأنا الآن في سيارة صديق وهو الذي يعرف الطريق. عموما سأجعل زميل من الحاضرين يهاتفك ويعطيك العنوان عندما نصل البيت. و..و.. أشوفك هناك يا خيري...مع السلامة"! ومرت 40 دقيقة تقريبًا، وأنا مازلت جالسًا على المقهى. في انتظار اتصال عمنا زين العابدين فؤاد. مرت الدقائق حتي فَصَل هاتفي شحن. وعندما اتصل بي كنت خارج نطاق الخدمة. وبالتالي لم أذهب إليهم، رغم أن المقهى على بعد دقائق من البيت! *** [المعادي بعد مرور شهرين] ذات صباح كنت عائدًا من معمل للتحاليل بميدان المحطة عبر شارع 10 سيرًا على الأقدام ومعي زوجتي. اخترقنا ميدان دمشق ومنه إلى شارع 9 (ب) الذي يربط بينهما شارع رقم 73. ونحن نسير وسط أشجار باسقة، وهدوء ملحوظ، وأصوات عصافير، ومباني عريقة، وصوت زوجتي وهي تحدثني عن قرب موعد دفع قسط مصاريف مدرسة الأولاد، وأجرة البواب، وكهربة الأسانسير! في هذه اللحظة لمحت يافطة نحاسية مستطلية الشكل، مكتوب عليها "عاش هنا". تركت زوجتي تكمل قائمة مطالبها المعتادة، العادية، واقتربت أكثر من اليافطة فوجدت: "هنا عاش علاء الديب". تسمرت مكاني. أنظر خلفي وأمامي. أراجع شريط الذكريات من أول مجموعة قصصية قرأتها له (صباح الجمعة الصادرة عن روزاليوسف - 1975) ومحادثاتي الهاتفية الدائمة معه لترتيب زيارة لم تحدث منذ سنوات. ثم وقفت لا أعرف.. أفرح أم أحزن.. أرد على زوجتي التي مازالت تتحدث عن قائمة مطالب البيت.. أم.. لا! أمشى أم أجلس مكاني. أطرق بابه أم أترك الشارع وابتعد. في النهاية غادرت المكان الذي وصلت له بالصدفة رغم إنني أسكن بجواره منذ 10 سنوات دون أن أعرفه. ومنذ ذلك اليوم غيرت طريق سيري اليومي المعتاد، فكلما ذهبت إلى ميدان المحطة، جعلت طريقي هو المرور من أمام بيت علاء الديب ربما تعويضًا عن اللقاء الذي لم يتم بيننا حتى أقول له في الصباح إن مررت صباح الخير يا أستاذ علاء. وأقول له في المساء إن مررت مساء الخير يا أستاذ علاء! *** [القاهرة- 2021] اليوم .. وبعد مرور 5 سنوات على رحيله. وبعد مرور ما يقرب من 26 عامًا على صرخته كمثقف مصري في (وقفة قبل المنحدر) التي قال فيها: "نعاني من تدهور فى كل شيء: "الصنعة، الحرفة، الأمانة، وقيمة العمل"..هل مازلنا نشاركه الوقوف قبل المنحدر.. أم.. سقطنا فيه؟!