قبل الربيع العربي وقبل حزب العدالة والتنمية لم يكن أحد يتحدث عن النموذج التركي بإيجابية. كل الأدبيات العربية والإسلامية، لمن يريد التذكر والمراجعة، كانت تنظر إلى تركيا على أنها بلد العلمانية المعادية للدين وأنها بلد الانقلابات العسكرية وأنها بلد التحالف مع إسرائيل والغرب وحلف الناتو تحديدا. فقط عندما جاء حزب إسلامي إلى السلطة في تركيا في العام 2002 هو حزب العدالة والتنمية بدأت النظرة إلى "النموذج" التركي تتغير ولو ببطء. غير أن التحول الأكبر جاء مع بدء الثورات العربية وبدء قطف أحزاب الإسلام السياسي نتيجة الثورات في صناديق الاقتراع فكانت انتصار الإخوان المسلمين في تونس أولا ومن ثم في مصر وبعد ذلك في المغرب الذي كان خارج الثورات لكنه كان ضمن حصادها عبر حزب العدالة والتنمية المغربي. وفي سوريا كان الثقل ولاسيَّما من الجانب التركي ليكون تنظيم الإخوان المسلمين الأساس في الثورة وبالتالي في حصد نتيجة أية انتخابات ديمقراطية في المستقبل هذا إذا وصلت سوريا إلى هذه المرحلة. كيف يمكن لبلد كان نموذجه عنوانا للسوء في البلدان الإسلامية أن يصبح نموذجا يراد له أن يجد تطبيقا في العالم العربي والإسلامي؟ لقد سال حبر كثير عن مواءمة النموذج التركي للعالم العربي والإسلامي. ومن طليعة المروجين لذلك هو الغرب نفسه باعتبار أن العلمنة في تركيا نمط يساعد على تهذيب النزعات الإسلامية المتطرفة في المجتمعات الإسلامية. وقد ازدادت قناعة الغرب بذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 ومن هنا كان الدعم الأمريكي القوي لسلطة حزب العدالة والتنمية في تركيا لتكون نموذجا "معتدلا" للعالم الإسلامي وكانت الإدارة الأمريكية مستعدة حتى لتصفية نفوذ الجيش في السياسة التركية من أجل إرساء النموذج التركي. هنا تنبغي الإشارة إلى مسألة مهمة وهي أن حزب العدالة والتنمية في تركيا، كما كل سابقيه من الأحزاب الإسلامية التي لعبت دورا في تاريخ تركيا الحديثة وكان رمزها ومؤسسها نجم الدين أربكان، قد انخرطوا في نموذج قائم في الأساس ووجدوا أنفسهم قد ورثوه. وهم يدركون جيدا أن هذا النموذج لا ينسجم مع المعتقدات الإسلامية ولا مع الثوابت الموجودة في الشرع الإسلامي. فلا العلمانية من الإسلام بشيء وتتناقض مع أن الإسلام دين ودولة وأنه لا يمكن فصل الدين عن الدولة وليست الديمقراطية بمعناها الغربي المعروف ممكنة التداول في المجتمعات الإسلامية لأن أحد أهم أسس الديمقراطية هو العلمانية وتحييد النزعات الدينية وهو غير ممكن في العالم العربي والإسلامي. إن البحث عن نموذج ديمقراطي في المجتمعات الإسلامي لا يمكن إلا أن يكون نتاجا خاصا بالمسلمين وليس محاكاة للنظام الغربي. لقد عرف حزب العدالة والتنمية انتشارا في العالم العربي على الأقل لأنه بدأ يتطلع إلى الشرق وينتهج سياسات إسلامية جعلته طرفا في الصراعات الإقليمية والداخلية في كل بلد. وكانت لزعمائه مواقف واضحة من الثورة في مصر فعارضوا حسني مبارك، ومن سوريا حيث دعوا إلى إسقاط النظام، ومن الوضع في العراق حيث تحول حربا على رئيس الحكومة العراقية وتحالفوا مع أكراد شمال العراق. لكن اللافت في مسيرة حزب العدالة والتنمية أنه في وقت يعزز علاقاته العسكرية مع حلف الناتو ويؤكد مسؤولوه أن حدود تركيا هي حدود الأطلسي وهذه سابقة في اعتبار حدود بلد مسلم حدودا للأطلسي، فإنه بدأ يتراجع في مساره الحداثي بالنسبة للاتحاد الأوروبي. لقد ورث العدالة والتنمية كما ذكرنا النموذج بشقيه العلماني والديمقراطي وبقدر ما يقدم الحزب أولوية لنزعة أيديولوجية تستند إلى الدين الإسلامي في التعاطي داخليا ومع المنطقة، بقدر ما تتراجع نزعة التحديث في تركيا. وهو ما حذّر منه ألكسندر غراف لامبسدورف نائب رئيس الكتلة الليبرالية في البرلمان الأوروبي والمكلف بكتابة التقرير الخاص بالتقدم التركي مع الاتحاد، الذي قال لصحيفة زمان التركية إنه "بمقدار ما تبتعد تركيا عن القيم الأوروبية تفقد احترامها العالمي ولولا المسار الأوروبي لتركيا لما كان أحد يتحدث عن النموذج التركي بعد ظهور الربيع العربي وبالتالي إن لم يكن المسار الأوروبي فلا إصلاح في تركيا". وهذا، برأينا، هو التحدي الأكبر أمام حزب العدالة والتنمية، حيث لا تمكن المواءمة بين الحداثة الغربية والقيم الإسلامية وأي خيار بينهما سيكون على حساب الآخر. فيما البحث عن طريق ثالث عبث بعبث. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية