تمثل تجربة حزب العدالة والتنمية التركي، واحدة من التجارب المهمة في الواقع المعاصر للعالم العربي والإسلامي. كما تمثل نتائج تلك التجربة الحالية والمستقبلية، عاملا مهما ومؤثرا على مجمل التجربة السياسية الديمقراطية في المنطقة. وسبب أهمية هذه التجربة، أنها أولا: تمثل حالة ديمقراطية تم فيها تداول السلطة عن طريق انتخابات نزيهة. وهي ثانيا: تمثل تجربة قام بها إسلاميون وصلوا للحكم عن طريق ديمقراطي، وهي تمثل ثالثا: تجربة في تعديل مسار الديمقراطية التركية، التي تقوم على التداول السلمي للسلطة، ولكنها تشهد أيضا تدخل الجيش في مسار العملية السياسية. يضاف لهذا، أن تجربة حزب العدالة والتنمية، تمثل نموذجا لفكرة العمل السياسي المقسم إلى مراحل إستراتيجية متتالية. فحزب العدالة والتنمية، قام على أساس قبول العلمانية كنظام سياسي، بل وتعهد بالحفاظ عليها. حيث أن الدستور التركي يمنع أساسا الأحزاب الإسلامية. وتجارب الأحزاب السابقة لحزب العدالة والتنمية والتي قادها نجم الدين أربكان، قدمت المشروع السياسي الإسلامي تحت لافتة النظام العادل، وليس تحت لافتة النظام الإسلامي. ولكن حزب العدالة والتنمية غير من برنامج الأحزاب السابقة عليه، ومنها حزب الرفاه، فقدم عملية الإصلاح السياسي الديمقراطي والانحياز لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والذي قد لا يتحقق في النهاية، على جدول الأعمال الإسلامي، الذي تبناه نجم الدين أربكان، والمتمثل في إقامة سياسة منحازة للعالم العربي والإسلامي، وسياسة داخلية مساندة للكتلة الشعبية الإسلامية داخل تركيا. لذا يعد حزب العدالة والتنمية، حزبا علمانيا أسسه إسلاميون، بهدف تأسيس دولة الديمقراطية، حتى يتحقق نظام سياسي يسمح بحرية العمل السياسي لكل الأطراف. واعتمد حزب العدالة والتنمية على مقاربة سياسية جغرافية، تقوم على تقوية تركيا من الداخل بدعم الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي حسب منهج المؤسسات المالية الدولية، ثم دعم الدور الإقليمي لتركيا، لتتصالح مع كل محيطها، وتكتسب قوة من دورها في هذا المحيط. فيصبح برنامج حزب العدالة والتنمية في مرحلته الأولى، مرتكزا على إقامة تركيا القوية، مما يساعد تركيا على أخذ مواقفها المستقبلية بحرية أكبر، اعتمادا على الدور الإقليمي لها. ولكن هذا تم من خلال موافقة ومساندة أمريكية مباشرة، تلزم تركيا بالقيام بدورها في ضوء المصالح الأمريكية في المنطقة، وليس ضدها. ثم بدأت الدولة التركية تتحرك بقيادة حزب العدالة والتنمية لتطوير مواقفها السياسية، لتؤسس لمسافة معقولة مع الداعم الأمريكي، فلا توافقه على كل ما يريده منها، وتؤسس أيضا لمسافة أكبر مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. وكانت الحرب على غزة، هي فرصة حزب العدالة والتنمية، ليؤسس لنفسه وضعا جديدا، يجعله قادرا على نقد التصرفات الإسرائيلية، رغم تحالف الدولة التركية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. وتعد هذه المرحلة، هي مرحلة تفكيك الأوضاع التركية التقليدية، وتأسيس أوضاع جديدة، تجعل دولة تركيا تتحرك في مساحة من الحرية، تمكنها من تأسيس مصالحها في المنطقة. وهنا بدأ حزب العدالة والتنمية يؤسس لهويته، ويعيد إنتاجها في صورة هوية عثمانية جديدة. فالهوية العلمانية للحزب تجعله تابعا مباشرة للسياسات الغربية، ولكن الهوية العثمانية الجديدة، تؤسس لمصالح القومية التركية والدولة التركية، بصورة تسمح لتركيا بالحركة في مسارات متعددة، مع حفاظها على الروابط التقليدية مع الغرب وأمريكا خاصة، وكذلك مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. هكذا برز البعد القومي، وهو لم يكن غائبا عن دولة تركيا منذ تأسيسها على أثر إسقاط الخلافة العثمانية. فتركيا العلمانية المعادية لهويتها الإسلامية، قامت على أساس قومي، وهدمت الخلافة الإسلامية، من منطلق قومي. وهي الآن تمثل دولة علمانية لا تعادي الدين، ولكنها تتحرك على أساس قومي أيضا. فهي تتحرك بزعامة رجب طيب أردوغان لحماية المصالح التركية، وحماية القومية التركية، وتأسيس دورها كفاعل إقليمي في المنطقة. ومع استدعاء الهوية العثمانية، يمكن استدعاء التاريخ الإسلامي المشترك، بين تركيا والعالم العربي والإسلامي، مما يفتح مجالا أمام التواصل الجغرافي تجاه الشرق، ويعطي لتركيا دورا مهما في المنطقة. ومع استمرار السياسة التركية الحالية، سوف يواجه حزب العدالة والتنمية مواقف أخرى تحدد هويته أكثر، وتكشف عن المراحل التالية من برنامجه السياسي، وسوف يصبح أمام امتحانات متتالية، تضعه أمام اختيارات مؤثرة. فالعثمانية العلمانية، تقود إلى تأسيس دور قومي تركي في المنطقة، وحماية الأعراق المنتمية للجنس التركي في وسط أسيا، وحتى حدود الصين. والعثمانية العلمانية أيضا، تدفع الدولة التركية إلى تأمين حدودها، وتعظيم دورها في مواجهة القوميات الأخرى، حتى يصبح لتركيا وضع في الميزان الإقليمي، يسمح لها بحرية حركة في المجال الدولي، وتصبح لاعب مهم لا يستطيع الغرب الاستغناء عنه، مما يعضد من موقف تركيا في القارة الأوروبية. أما إذا كانت العثمانية بوابة إلى المشروع الإسلامي، فهذا يدفع حزب العدالة والتنمية لتأسيس دوره في الإقليم بوصفه وحدة من وحدات الإقليم. ويجعل دور تركيا يتجه لتحقيق مصالح المنطقة العربية والإسلامية في مواجهة أي عدوان غربي عليها، ويحول دفة السياسة التركية ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، حتى تصل للمرحلة التي تتراجع فيها عن اعترافها بدولة الاحتلال الإسرائيلي. وتتحول تركيا إلى دولة تدعو للوحدة الإسلامية، وتعمل على حماية مصالح الأمة الإسلامية. ولكن هناك خيار آخر، فقد يتحول التوجه العثماني إلى نوع من القومية الإسلامية، حيث يرتبط الاعتزاز الديني بالاعتزاز القومي، وتصبح الإسلامية جزءا من الفخر القومي العثماني. وهنا تدخل تركيا في تنافس مع الدول العربية والإسلامية، وتتنافس على إعلاء إسلاميتها على إسلامية الآخرين. مما يدخلها بلا شك في حالة مواجهة مع بعض الدول. كما يؤسس هذا لمرحلة تحاول فيها تركيا فرض دورها الإقليمي على الدول الأخرى. وعندما تصبح الإسلامية مرتبطة بالقومية التركية، وخاصة بها، لن تعمل تركيا من أجل مصالح الأمة الإسلامية، لأنها سوف تصبح أمة في حد ذاتها، وسوف تستغني ضمنا عن التوحد مع بقية شعوب الأمة الإسلامية. وسوف تظهر النزعة نحو اعتبار إسلامية تركيا هي الحالة الخاصة والمثالية. وهذا الطريق يقود في النهاية إلى إعلاء النزعة القومية، والتي تقود للعنصرية والتعصب، مما يؤدي إلى ترسيخ الحل العلماني، وتصبح الإسلامية مجرد ملمحا من ملامح القومية. هذه الخيارات ليست سهلة، وتأثيرها على المنطقة ومستقبلها كبير. والخيار التركي سوف يعتمد على تفاعل الحزب الحاكم في تركيا مع الأوضاع القائمة حوله، وما ينتج عن ذلك من سلسلة أفعال وقرارات، قد تؤدي في النهاية إلى النتيجة التي أرادها حزب العدالة والتنمية، أو تؤدي إلى نتيجة لم يكن يريدها منذ البداية.