تلعب تركيا دورا إقليميا مهما، خاصة مع غياب الدور الإقليمي العربي. ولقد بدأ حزب العدالة والتنمية الانتقال من مرحلة إلي أخري. فقد بدأ الحزب مركزا علي تعميق الديمقراطية في تركيا، وألزم نفسه بالعلمانية. وبعد نجاح الحزب في تحقيق العديد من الإصلاحات الداخلية، بدأ في الدخول في مرحلة تكسير عظام الاستبداد العلماني، ليقيم علمانية ديمقراطية، ولكن مع هذه المرحلة والتي تتطلب كسر شوكة الجيش والقضاء كمؤسسات حامية للعلمانية، فإن الحزب بدأ في توسيع قاعدته الإقليمية من خلال تصفير المشكلات مع الدول المحيطة به، وبناء علاقات إيجابية مع مختلف الدول في محيطه العربي والإسلامي، مع الحفاظ علي العلاقة الوطيدة بينه وبين أمريكا والغرب، وتحجيم علاقته الاستراتيجية مع دولة الاحتلال الصهيوني، مستفيدا من جرائم الاحتلال الصهيوني، مثل حصار غزة والعدوان علي قافلة الحرية. تلك السياسة تهدف إلي تحقيق تعادل نسبي في علاقات تركيا الخارجية، وتعميق علاقتها مع دول الجوار وحل المشكلات التي كانت بينها وبين دول الجوار، مما يجعل لتركيا دورا إقليميا، مع الحفاظ علي العلاقة الخاصة بين تركيا والغرب. وبهذا لم يشأ حزب العدالة والتنمية أن يتجه شرقا، ليقيم علاقات مع محيطه التاريخي الحضاري، أي المحيط العربي والإسلامي، بنفس الأولوية التي مارسها حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان، حتي لا يثير الغرب ضده، فاستخدم نموذج العلاقات المتكافئة والمتوازية المتدرج، ليؤكد أنه لا يبتعد عن الغرب، ولكنه فقط يقترب من الشرق، رغم أن حزب الرفاه أكد نفس الموقف، ولكن الشكوك الغربية حوله كانت أكبر. تلك السياسة تعتمد علي الحركة من داخل النموذج العلماني القومي، حتي تصبح الحركة مقبولة من الغرب. وهو ما فعلته من قبل قيادات حركات التحرر الوطني، ومنها جمال عبد الناصر، والذي ألزم دولته بالنموذج السياسي الغربي العلماني، حتي لا يتحرك في فضاء معاد للغرب. ولكنه استخدم الحرب الباردة في الانحياز لمعسكر ضد الآخر، فاستمر اعتماده علي الظهير الغربي. وكما رفع جمال عبد الناصر شعار القومية العربية، ليوسع الدور الإقليمي لمصر، رفعت تركيا الحديثة شعار القومية التركية، أو العثمانية الجديدة كغطاء لحركة تركيا نحو توسيع دورها الإقليمي. ولكن تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية جاءت عبر الديمقراطية، ومن ثم تعمل علي تعميقها، علي عكس التجربة الثورية لعبد الناصر والتي أهملت الديمقراطية وأسست للاستبداد. وتجربة تركيا لم تتحرك بين المعسكرات الغربية مثل تجربة عبد الناصر، لعدم وجود معسكرات أصلا، بعد سقوط الشيوعية وانفراد أمريكا بقيادة الغرب. فحزب العدالة والتنمية يبني مشروعه الوطني متجنبا النزعة الإسلامية، ومحتميا بالعلمانية المحافظة، والقومية التركية، حتي يضع لنفسه غطاء سياسيا يفسر سياساته. فهو يحاول إعادة الدور التركي العثماني في الإقليم مستخدما الميراث التاريخي، ليبني لتركيا دورا محوريا في الإقليم العربي والإسلامي، مع الحفاظ علي العلاقة الوثيقة مع الغرب. وهنا يدخل حزب العدالة والتنمية التركي في المرحلة الثانية من تجربته، حيث يحاول بناء الدور القومي التركي بدعم غربي، مع توسيع مجال فاعليته في الإقليم العربي والإسلامي، في محاولة لاستعادة الروابط الإسلامية التاريخية، وتحقيق التوازن بين الدور الإقليمي الداعم للقضايا العربية والإسلامية، والعلاقة مع الغرب. ويبتعد حزب العدالة والتنمية عن الخط الفاصل بين العلاقة القوية مع الغرب، والعداء لسياسات الغرب. حيث يمارس حزب العدالة والتنمية التركي دوره داخل إطار المصالح الغربية في المنطقة، ولكنه وعلي طريقة الإصلاحيين الشهيرة، يوسع من مجال حركته تدريجيا، بحيث يزيح العديد من العقبات أو الخطوط الحمراء من طريقه، حتي يتمتع بهامش حركة أكبر في علاقته مع الغرب. ولكن الغرب الذي بارك تجربة حزب العدالة والتنمية، واعتبرها نموذجا لتجربة يقوم بها إسلاميون أعلنوا ولاءهم للعلمانية، أصبح يرقب حركة الحزب بحذر شديد، فهو لا يواجه الحزب، ولا يصطدم مباشرة مع رئيس الوزراء رجب طيب أردوجان، ولكنه في الوقت نفسه يشعر بقدر من القلق تجاه التغييرات الحادثة في سياسة الحزب. فالمواقف الخاصة بالحزب من دولة الاحتلال الصهيوني، تنم عن نغمة يعرفها الغرب جيدا، هي ليست علي وجه الدقة تمثل الخطاب الإسلامي، ولكنها علي الأقل تمثل الخطاب القومي علي النمط القومي العربي أو الناصري. والغرب يعتبر أن النموذج القومي العربي أو الناصري الاشتراكي، ورغم أنه علماني، فإنه يعادي العديد من سياسات الغرب في المنطقة، خاصة في ما يخص دولة الاحتلال الصهيوني. وحزب العدالة والتنمية يتبع سياسات رأسمالية واضحة، وهو ما يطمئن الغرب، ولكن الغرب يخشي من الخطاب القومي الشعبي، ويخشي أيضا من ظهور نزعة قومية شعبية، تؤثر في الوضع الإقليمي وتحد من الدور الغربي في المنطقة، وتهدد مصالح دولة الاحتلال الصهيوني. وتركيا ترتبط بعلاقات مع الاحتلال الصهيوني أكثر من أي دولة عربية أو إسلامية أخري، ومازالت علي هذا الوضع، ولكن حزب العدالة والتنمية يحاول الحد من تلك العلاقة، ويوازن بين علاقته مع دولة الاحتلال الصهيوني وعلاقته مع جيرانه. ربما يمثل المدخل القومي غطاء لمشروع حزب العدالة والتنمية لتغيير جوهر السياسة التركية، لما يتيحه من تبريرات تسمح بالحديث عن الدور التركي، وقيمة الدولة التركية. ولكن تلك المرحلة التي ترفع شعار العثمانية الجديدة ضمنا، لها ما بعدها، فقد تؤسس لمرحلة قومية علمانية، يتم ترسيخها في تركيا، وهي أصلا دولة علمانية وقومية، ولكنها كانت تحمل علمانية متطرفة معادية للتدين ومستبدة، فتصبح علمانية معتدلة ولا تعادي التدين والديمقراطية؛ وقد تكون هناك مرحلة ثالثة لحزب العدالة والتنمية، قد يقوم بها قادة الحزب الحاليون، أو الجيل التالي لهم، وهي مرحلة استعادة الهوية الإسلامية لتركيا، واستعادة دورها الإقليمي علي أساس إسلامي. والمتوقع أن الغرب يراقب تركيا وحزبها الحاكم، ويحاول التأكد من عدم وجود تلك المرحلة الثالثة، كما يحاول منع تلك المرحلة من الحدوث، وربما يستخدم الغرب أدواته في تركيا، ومنها مؤسسة العلمانية المتطرفة، رغم أنه شجع حزب العدالة والتنمية علي مواجهة العلمانية المتطرفة غير الديمقراطية. وهنا يبرز مأزق الغرب، والذي أيد حزب العدالة والتنمية ولم يحسب حسابًا لتحولاته. ولكن مأزق الغرب لا يقل عن مأزق حزب العدالة والتنمية، فلا يمكن أن يصل حزب للسلطة بدعم غربي، ويمارس عملية تحجيم لخصوم الديمقراطية الكاملة، ومؤيدي العلمانية المتطرفة بدعم غربي واضح، وتحت مظلة شروط الاتحاد الأوروبي، ثم يتحول الحزب في النهاية إلي سياسة مستقلة عن الغرب وتبتعد تدريجيا عن العلمانية، وتؤسس لنهوض إسلامي في المنطقة العربية والإسلامية. لذا يتحرك حزب العدالة والتنمية بحذر، كما يتحرك الاحتلال الصهيوني بحذر أيضا، وكذلك الدول الغربية. فحزب العدالة والتنمية لا يريد أن يبدو كمن خرج عن السياسة الغربية المهيمنة علي العالم، وعلي المنطقة العربية والإسلامية خاصة. والدول الغربية، خاصة أمريكا ودولة الاحتلال الصهيوني لا تريد أن تبدأ في المواجهة مع تركيا، وتراهن علي الترابط السياسي والاستراتيجي الذي مازال قائما. فالكل يبتعد عن لحظة المواجهة، وحزب العدالة والتنمية يوسع دوره، ويتراجع إذا لزم الأمر، وهو يعرف أن هناك مساحة مسموح بها للحركة، ولكن هناك أيضا خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها. ويصبح أمام حزب العدالة والتنمية إما الاكتفاء بكل ما هو متاح تحت مظلة الهيمنة الغربية، أو تقوية وضعه الداخلي تدريجيا، حتي يتمكن من اللعب خارج قواعد اللعبة الغربية.