تتجاذب الأهواء والأنواء سؤال جوهري في مصر الآن، ماذا بعد الاستفتاء على مسودة الدستور بنعم ولا بعيدا عن التوافق الوطني الذي افتقدته الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور الجديد؟ ويتردد موازيا لذلك وعيد مبارك بأنه أو الفوضى على ألسن عديدة وكأنه هروب من مسؤولية استكمال الثورة. ثم كيف انتقلت الأصوات والجماعات الإسلامية التي كانت تكفر الخروج على الحاكم الذي يسمح بالصلاة في المساجد ولم يغلقها، إلى الادعاء بحق الولاية على الأمر بعد الثورة، والاحتشاد لحصار مفاصل الدولة؟ بل وتتجاوز ذلك إلى أعمال التخريب والقتل، وآخر حوادثها ما جرى من إطلاق طلقات الخرطوش على أكبر تجمع للمقاهي في قلب القاهرة في الساعات الأولى من يوم الاثنين 17 ديسمبر، بعد أن أعلنوا عن بنك الأهداف الذي يرصدونه شاملا 10 محطات فضائية وعشرين جريدة وعشرات الأشخاص بين إعلاميين وسياسيين. ولماذا كانت جماعة الإخوان تقبل بالحوار مع جهاز أمن الدولة في عصر مبارك، وتهاجم مسيرات سلمية وصلت إلى قصر الرئاسة بالسلاح الأبيض والخرطوش والحي، ليصل القتلى إلى 10 حسب الإحصاء الرسمي ويتجاوز 23 حسب شهود العيان، بل تعذب من يقع بأيديهم، وتهين وتتحرش وكأن الأمر انتقام وليس إنهاء لحالة الاحتشاد؟ ثم هل فيروس العناد يقيم بقصر الرئاسة لتنتقل عدوى العناد من مبارك إلى مرسي، فيعاند متناسيا أنه ما كان ليصل إلى كرسي الرئاسة دون ثور يناير؟ وسط هذه الحالة من الفوضى جرى الاستفتاء على مسودة الدستور بعد تجميد دور القضاء والحيلولة بينه وبين الحكم في صحة تشكيل الجمعية التأسيسية وقانون انتخاب مجلس الشورى، ثم ما ترتب على الإعلان الدستوري الأخير من صدام بين القضاة والرئيس المنتخب مما جعلهم يرفضون الإشراف على عملية الاستفتاء. وبمجرد انتهاء المرحلة الأولى يدخل نادي مجلس الدولة على خط المواجهة ليعقد أمس الاثنين اجتماعا لدراسة مخالفات المرحلة الأولى (56% نعم، 44% لا) مما يمهد لحكم مسبق على الإجراءات قبل تلقي أي طعن بشأنها. العناد والإعلانات الدستورية التي لا حق للرئيس في إصدارها والأسئلة الحائرة والدم المسال لمواطنين مصريين بيد آخرين مثلهم أيا كان موقفهم أو انتماؤهم السياسي، كل ذلك أدى إلى انقسام المجتمع المصري. لا أحد يمارس السياسة أو الصراع أو حتى الحرب الأهلية، كل الأمور تمارس على غير علومها وأصولها، وبغير القدرات الواجبة لممارستها، فالسياسة كلام مبتور وبلا فاعلية بل ويفتقد المصداقية والقبول لدى الشارع، والصراع بلا قوة وبلا رؤية، ومقدمات الحرب الأهلية لا تتجاوز الانفعال والبلطجة. والحشود المليونية التي يجمعها رد الفعل منذ فبراير 2011 حتى اليوم، لم تعد حشودا قادرة على إحداث التغيير، ولكنها في أقصى ما تصل إليه هي حشود تعبيرية، تفرغ ما يجيش بالصدور، ولكنها لا تجري تعديلا على ميزان القوى، بل جرى إهدار معناها بتبادل الحشود على الجانبين، ولعل الحشود أمام المحكمة الدستورية قد منعتها من الانعقاد وحالت بينها وبين دورها، ولكن الحشود من حول قصر الرئاسة لم تتجاوز مجرد التعبير لأنها لم تأخذ قرارا بالاستمرار أو قرارا بالدخول إلى القصر ذاته. ومن الغريب أن يخرج نائب مرشد الإخوان ليقول: "لن نسمح بسرقة الثورة مرة أخرى"، خاصة وأن الاتهام يلاحق جماعة الإخوان بأنهم سرقوا الثورة في المرة الأولى، إلى هذا الحد بلغ تزييف المواقف والادعاء بغير ما جرى ولم يمض زمن يمكن فيه النسيان بعد. كتب واحد من شباب الثورة تغريدة على تويتر يقول فيها: "إن كل تذكرة انتخاب توضع في صندوق الاقتراع ملطخة بدم الشهداء"، يموت الشهداء ويرث الثورة غيرهم لغايات غير التي خرج من أجلها الشهداء. ضجيج الأرقام والنسب بين نعم ولا، وملاحظات يوم الاستفتاء في مرحلته الأولى، لا يجب أن تشغلنا عن جوهر خطر الانقسام الذي أصاب المجتمع المصري. وارتفاع صوت التنظيمات والجماعات الإسلامية أيضا لا يجب أن يحول دون الاعتراف بضعف القوى السياسية التي تواجهها، فالشارع المصري قد سبق الجميع، والإسلاميون صامتون عن حالة الانقسام والشارع يتحرك ضدهم وقراءة نمو حالة الرفض لأفعالهم تؤكد ذلك، وانعدام قدرة التيارات السياسية على إبداع وخلق حالة لتوازن القوى جعل الشارع يتجاوزها، بل ويسعى بذاته لإحداث التوازن سواء بالعصيان المدني أو بالسعي التنظيمي أو بتنامي الحوار عن استدعاء للجيش لإحداث التوازن. الفارق كبير بين القدرة، وصدق الموقف، واستبدال العجز عن اختيار الموقف الصحيح بمحاولة الحديث عن الشرعية، وبأن هناك حاكما شرعيا ومعارضة، وكأن الثورة قد ألقت مراسيها على شاطئ الانقسام، قبل أن تبحر أساسا في اتجاه أهدافها، فانتخاب الرئيس جاء عبر صندوق رفض عودة النظام السابق، وهو ذاته الفارق الضخم بين ادعاء الشرعية وانعدام الأهلية والقدرة على إدارة الدولة، فجملة قرارات الرئيس المنتخب وتراجعه عنها تنم عن كونه لا يملك أو أحد من مستشاريه مقومات تقدير صحيح للمواقف قانونيا أو طبقا للأعراف أو سياسيا، بل إن الرئيس المنتخب نسي كافة تعهداته الخاصة بالتوافق العام حول الدستور، ولا يعدم الأمر أن يسوق البعض أن تراجعاته تؤكد ديمقراطيته وأنه ليس بديكتاتور، وصارت الديمقراطية مجرد تراجعات عن قرارات وليست مشاركة في حوار قبل القرارات حسب ما تفرضه طبيعة المرحلة بعد توليه وعلى أساس الاتفاقات معه قبل انتخابات الإعادة في مواجهة منافسة القادم من عمق النظام السابق. تتزامن في اللحظة الراهنة ثلاثة موضوعات في مواجهة تتناقض مع شعار الثورة "عيش، حرية، عدالة اجتماعية". الأول أن تناول أمر الدستور من جانب القوى المدنية هو محض كلام، ومن جانب الرئيس وجماعته هو فعل وتحد وقرارات، والقوى المدنية تطعن في صحة تشكيل الجمعية التأسيسية بالأساس، والتيارات الإسلامية والرئيس يتحدثون عن "المنتج" النهائي، مما جعل الهوة تتسع، فكل يتحدث في اتجاه مختلف، والرئيس المسؤول عن تحقيق التوافق الوطني حسب وعده يرى أن الاختلاف في مواد الدستور يتولاه مجلس الشعب القادم، وكأنه يقول لهم: "هاتوا آخركم"، وهذا ما عندي! وسواء انتهت نتائج الاستفتاء بنعم أو لا فإن الحقيقة أن الرئيس المنتخب معتمدا على جماعته ووفاء لتعهدات لمن يحيطون به، مارس لي ذراع المجتمع ليصنع دستورا على الهوى الخاص بهم، وهذا النحو يسقط أهلية الرئيس المنتخب للحكم، خاصة وأن مبرر وجوده ليس الانتماء للثورة ولكنه يستمد مبرر وجوده من أصوات حصل عليها في صندوق انتخابات، تؤكد حسابات الأصوات أن حصة جماعته ومن نجحوا في استقطابهم لا تتجاوز 35% من جملة الأصوات التي حصل عليها. كل ذلك سيؤدي إلى استمرار المواجهة وبلا أفق يمكن القول إنه أفق التعايش، ففي مجتمع التكفير والبلطجة لا إمكانية للتعايش، بل يجب أن تنفجر الأزمة حتى يدرك الجميع ضرورة التعايش والمشاركة، والأزمة لم تصل لأقصى تطور لها بعد كي تنفجر. الأمر الثاني وهو جوهر ثورة يناير "عيش وعدالة اجتماعية"، وليس معنى العيش هنا هو رغيف الخبز، ولكن معناه إعادة التوازن بين الأسعار والأجور، ويتضمن الأمر كذلك هؤلاء الذين يعيشون تحت خط الفقر، وفي مقابل هذا التحدي تتجه سلطة حكم الإخوان إلى زيادة الأسعار مما أدى إلى مضاعفة عبء الحياة على الشعب، وأصبح الشعب ضحية الغلاء، حتى يمكن الحصول على قرض صندوق النقد لسد عجز الميزانية. والسؤال إذا نجح نظام حكم الإخوان في أن يعبر عجز الميزانية، فكيف به سيتصرف في شأن القادم من مسؤوليات اقتصادية، أم أنها آخر ميزانية في تاريخ مصر أو تاريخهم. الأمر الثالث هو الأمن القومي المصري والعلاقة مع أمريكا وإسرائيل، وتصل أقوال أمريكية وإسرائيلية بأن مرسي قبل ما لم يقبله مبارك في الرقابة على سيناء، وأن الدستور الجديد منح الجيش المصري حالة الحكم الذاتي، وأخيرا يتردد في الداخل أن دعما مسلحا من ميليشيات حماس دخلت إلى مصر لدعم جماعة الإخوان! الإسلاميون يتهمون القوى المدنية بالتحالف مع فلول نظام مبارك، والقوى المدنية تتهامس بأن ميليشيات مسلحة تدعم التيار الإسلامي، وأن أجهزة الأمن تتعامل مع الأمر على أنه مشاجرة لا تعنيها من قريب أو بعيد، والجيش المصري كأن الجبهة الداخلية ظهره والسند الأساسي له لا تعنيه. توقف الحديث عن إسرائيل كمصدر رئيسي للخطر، وصار الخطر متبادلا بعد حالة الانقسام بين طرفين في الأمة، لا حدود لهما ولا ألوان مميزة لأي منهما، أي أن الاقتتال القادم بين المواطن وذاته. الحوار غائب ولغة الخطاب السياسي ساقطة، والوطن ومشاكله آخر ما يشغل الرؤوس. العقول التي تصنع المشكلة ليست مرشحة لحلها، وأصبح المطلوب البحث خارج المطروح على المجتمع، حتى وإن توصل المقتتلون الآن إلى هدنة فيما بينهم، فهم غير مرشحين للقدرة على صنع مستقبل مصر الذي تنشده والمتوافق مع العصر الذي نعيش ومسؤولياته. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية