لا أظن مصرياً يرغب في بقاء حال وطنه علي ما هي عليه الآن أو تقبّل عواقب ما تسفر عنه الأحداث المتلاحقة والكوارث المتفاقمة إلا لو كان خائنا أو عميلا أو مريضا بأدواء الشخصية وعللها المتعددة وأولها وهم البارانويا أو جنون التضخم المفرط في الذات الذي يجعله يعتقد في نفسه أنه الزعيم الأوحد القادر علي الإمساك بدفة الأمور وتسيير البلاد إلي بر الأمان. وأظن أن لهذا الزعم ما يفنّده - بل ما يلغيه ويبطله - من صعوبة حصول أيّ من مشتاقي الوصول لكرسي الحكم باعتراف جميع من يقفون إلي جواره الآن في جبهة المعارضة الشرسة والتي من الممكن أن تزداد صلابة واستقواء وشراسة أيضا- بجدارته واستحقاقه للرئاسة دونا عنهم جميعا. والسبب أن كلا منهم ينظر في المرآة فيري في نفسه صورة القائد أو الرئيس محاطا بصور شركائه المؤازرين له في موقف يعلم تماما أنه موقف تضامن مؤقت مهمته المرحلية هي التشكيك في الرئيس الشرعي المنتخب الموجود الآن والتأليب والتحريض عليه. وضمن مهمة مرحلية عابرة ذات هدف وحيد مؤكد هو خلعه من الرئاسة أو إزاحته عنها. لكن هذا المشتاق للمنصب – الرفيع الذي أصبح حادا ومسننا مدببا يؤذي حامله - كلما أمعن النظر في صورته، رأي برغبة واعية وإصرار إرادي صور شركائه تبهت ملامحهم حتي تنزاح وتختفي من الصورة الجماعية تماما. فيما تظل صورته وحده باقية تستطيل وتتمدد حتي تملأ المساحة كلها وتستحوذ عليها علي إيقاع هتافات التأييد المتصاعدة من حولها وكأنها أبخرة أو سحب ترفعه إلي عنان السماء دون أن يفكر لحظة واحدة في أن انفراط عقد شركائه المشتاقين من حوله وانصرافهم عنه وشيك وحتمي، لأنهم سرعان ما ينقلبون عليه فيصبح هدفا لنقدهم وهجومهم وتحريضهم عليه تماما مثل الرئيس الذي سعوا جميعا معا كي يسقطونه وتماما مثل ما حدث في روما القديمة ويحدث دائما ومتصلا في جمهوريات أفريقيا التي لا يستطيع قادتها أن يختاروا من يمثلهم. وبالتالي فليس أمامهم سوي حلّ باق وحيد - يفرض نفسه وبقوة – وهو استدعاء السيد المستعمر الغربي القديم كي يحكمهم ما داموا عاجزين عن حكم أنفسهم أو «تمثيل ذاتهم» علي حد تعبير كارل ماركس الحرفي وبنصه. بل ودعوته إلي ذلك: «إنهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم. فلنمثلهم نحن»! إذن ولكي لا تتمدد الحالة المصرية الراهنة وحتي لا تتفاقم فتصل بنا إلي الحل الوحيد الذي سوف يصبح مطلوبا ومنطقيا - بل وربما ضروريا محتما بعد فشل الشركاء الحاليين وتداعي شراكتهم المؤقتة – وهو الدعوة «العامة» إلي نزول الجيش للشارع وربما فرض الأحكام العرفية - طلبا لإعادة الاستقرار للبلاد وإنقاذ الوطن من التردي في هاوية الفتنة وجحيم الاختلاف – التي يمكن رغم خطورتها أن تصبح دعوة ملحة ومنطقية بل وقومية للإنقاذ. وهي دعوة متوقعة يؤدي إليها استقراء الحاضر الواقع وقراءة الماضي القريب كنتيجة محتمة ومنطقية يفرضها استمرار اختلاف الشركاء المرحليين الحاليين ومصادماتهم مع بعضهم وتحريض أنصارهم علي التظاهر والتمرد والاحتجاج أو الثورة بعد افتراض نجاحهم في إسقاط الحكومة الحالية وإزاحة أو تنحية الرئيس الحالي ثم ما يعقبه من فشلهم - المتوقع تماما – في اختيار رئيس من بينهم لنا (ولهم في البداية). ومن هنا يصبح الإقبال علي خوض «معركة» الاستفتاء علي الدستور واجبا وطنيا سواء بقبوله أو برفضه كي تعود الخطوة الأولي للاستقرار وتلوح بوادر انكشاف الغمة. أما أن يقال إن غالبية الشعب سوف يصوتون له ويؤيدونه تحت ضغط ما يقال من إغراءات مادية ومن جهل ومن تأثيرات مرغِّبة أو مضللة أو ضاغطة ووفق أي مسمي كانت، فهو مخالفة حقيقية لمبادئ الديمقراطية حتي ولو كانت «الشكلية» أو الإجرائية لكون الاستفتاء ضرورة محتمة ليس هناك من وسيلة ممكنة للتعبير عنها أو تجسيدها سوي صناديق الإدلاء بالأصوات. وأما ما يدعي إليه من ضرورة قصر الانتخابات علي المتعلمين وحدهم دون غيرهم، فمرفوض شكلا رغم قبوله عقلياً لأن ذلك يعني وبكل بساطة إهدار حق هؤلاء «الأميين» في التصويت رغم كونهم حاملين جنسية هذا الوطن، بعد أن أهدر حقهم في التعليم فظلوا علي عدم معرفتهم بالقراءة والكتابة ضحايا للفساد والاستبداد والفقر والجهل مثلما هم الآن ضحايا لمن يريدون أن يحرموهم من «نعمة التصويت أو نقمته» حين ضنّوا عليهم بتعريفهم وتثقيفهم وتنويرهم سياسيا في حين لم يضنّوا عليهم بتحريضهم وتهييجهم وتأجيجهم وليس «تثويرهم» مطلقا. لأن الثورة تعني الوعي بالفعل. وما داموا لا يستحقون التصويت علي دستور بلادهم – من وجهة نظر الداعين لذلك – فبالطبع لا يمكن اعتبارهم «قوة راشدة» أو ثورية من وجهة نظرهم أيضا. بل قوة غاشمة محبوسة في كتلة مصمتة يملكها من يقدر علي تحريكها وتصويبها إلي جهة أعدائه. وأخيرا هل لأصحاب هذه الدعوة ولهم كل التقدير والاحترام ودون أي ذرة من الشك في إخلاصهم، أنهم باجتهادهم ذلك ينسوننا أو ينسون أنفسهم أميّة أخري أكثر عتوّا وأشد خطرا، وهي أميّة المتعلمين وجهالة حاملي الشهادات الجامعية والمتوسطة الذين فرّغتهم سنوات الفساد من اهتمامات العقل الإنساني الحرّ فعزفوا عن القراءة وعزلوا عقولهم عن المعرفة. بل ربما لم يكلف واحد منهم نفسه عناء قراءة مشروع الدستور الجديد، في حين دأب كثير ممن نسميهم أميين ونشطوا ملحين في السؤال عنه واستقصاء أسباب معركته الدائرة وهم في ذلك مخلصون ناقصو المعرفة بالقراءة والكتابة فحسب دون أن نحسبهم مطلقا علي الجهلاء!