ما يجري في مصر من تظاهرات مؤيدة ومعارضة له دلالات ومعان كثيرة تبقى تحت سقف صحيح وصحي لكنه ليس مطلقاً، إذ ينطوي أيضاً على سلبيات ليست بسيطة. أولى هذه الدلالات أن الانقسام حزبي وليس سياسياً، حيث بدا واضحاً أن الإخوان المسلمين في جهة وباقي أطياف الشعب المصري في الجهة الأخرى، بمعزل عن الأعداد. ثانية الدلالات أظهرتها “فزعة” أعضاء وأنصار “الإخوان المسلمين” واشتباكهم مع المعتصمين سلمياً أمام القصر الرئاسي في القاهرة . من دون السقوط في فخ الفزعات “القيس يمنية” التي جبلت عليها هذه الأمة بحيث ترسّخت في عقليها الظاهري والباطني، ولا انتقاد أو استغراب من وجود انقسام نصفي في أي شعب، ولا سيما في فترة انتقالية مضطربة، لكن مرسي وإخوانه وضعوا منصب الرئيس في أحد طرفي هذا الانقسام، ولو لم يفعل مرسي نفسه ذلك، لوجد بالتأكيد قطاعات علمانية وربما يسارية في صفّه، ولوجد أيضاً أشخاصاً أكثر تشدداً من “الإخوان” في صف المعارضين، وبهذا يكون الانقسام على الفكرة والسياسة، وليس على الأشخاص والأحزاب . على هامش الجو الساخن يجري جدل حول أعداد المتظاهرين دعماً أو معارضة، وهذا النوع من الجدل ذميم وعقيم، وبخاصة بعد مرور بضعة أشهر على الانتخابات التي أظهرت بوضوح تقارباً بين ثلاث كتل شعبية في مصر، لا أحد منها يملك أغلبية مطلقة تؤهّله لممارسة ثنائية الاستيلاء والإقصاء . جدل الأعداد لا معنى له في النقاش السياسي، عملاً بالحكمة القائلة “لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه”، ثم إن هذا حق حصري لعملية الاقتراع أو الاستفتاء، علماً أن أي رأي أو توجّه له أنصار ومؤيدون، مثلما يوجد لأردأ أنواع البضائع زبائن . وبالتالي يمكننا أن نتذكّر جدلاً مشابهاً إبان انتفاضة 25 يناير، فعندما تظاهر مئات المصريين تأييداً لحسني مبارك سخر معارضوه وقالوا إنها بالعشرات ونظّمها بلطجية النظام، وعندما جرت الانتخابات الرئاسية تبيّن أن أنصار مبارك الذين صوّتوا لممثّل نهجه بالملايين، بل كان عددهم قريباً جداً من عدد ناخبي الرئيس مرسي، فهل البلطجية في مصر بالملايين؟ . هذا يقود إلى ضرورة اشتقاق سياسة إبداعية في التعاطي مع الظرف الخاص، بمعنى أنه في مثل الوضع الانتقالي ما بعد سنوات من الاستبداد والفساد وتآكل مقوّمات المجتمع المدني، كحالة مصر، لا تكفي نتائج صناديق الاقتراع لإعادة البناء، ولا بد من تبني مبدأ التوافق بين مكوّنات المشهد السياسي، لأن النهوض بالبلاد مسؤولية الجميع، إلا إذا أصرّ البعض على التعامل معها كمزرعة خاصة، فهذا من شأنه تأزيم الأوضاع وتأبيد المشاكل وتوسيع الهوّة بين أبناء المجتمع وتحويل الخلاف السياسي إلى شجار عشائري . مرة تلو أخرى، ومع تكرار التجارب، يثبت أن الديمقراطية مثل الشجرة، يجب أن تبدأ بذرة، فنبتة، فشتلة، ثم شجرة . الديمقراطية مهما كان مستوى التطور التاريخي للشعب، هي البديل الحتمي للدكتاتورية والاستبداد، لكن في كل الأحوال لا بدّ لها من معايير ومواصفات أهمّها أن تجري تحت سقف السلمية والحوار والانفتاح والاحتكام للشعب، وليس لكل قوى الكون باستثناء الشعب . وفي المعارك الديمقراطية لا بد من التحلي بالتواضع الشخصي والسياسي وتجنّب احتكار الحقيقة، فلا يوجد طرف على الحق دائماً وآخر على الباطل دائماً، ولا يستطيع أحد أن يدّعي أنه الخير المطلق، وأن خصومه الشر المطلق، لأن هذا المنطق بحد ذاته هو الشر المطلق الذي يشكّل دفيئة الأحقاد والفتن والضغائن، ويستبدل بالاستبداد استبداداً آخر أشد وطأة وأسوأ نتائج، وإن بدا ممكيجاً بالشعارات الجميلة . نقلا عن صحيفة الخليج