روى الخرائطي عن ابن مسعود أنه قال، إن البلاء موكل بالكلام، هذه المقولة تكاد تنطبق بشكل كامل على ما يحدث في مصر هذه الأيام. فالأداء السياسي الرسمي يعاني من أخطاء متكررة وكلمة السر فيها جميعا هي الخطاب المتسرع وغير المدروس. فالطبقة الحاكمة (الرئاسة وجماعة الإخوان) غير قادرة على أن ترشد من أدائها اللفظي، حيث تطلق بين الحين والآخر من التصريحات ما تعجز عن الوفاء أو الالتزام به، الأمر الذي جعل البعض ينظر إلى أدائها على أنه مجموعة من التراجعات المتواصلة. هذه الأخطاء المجانية والتي كان آخرها إصدار الإعلان الدستوري بصياغته المعيبة وضعت الرئاسة والجماعة في موقف الدفاع، وأتاحت الفرصة أمام خصومهما من كل المعسكرات لكي يتكتلوا أمامهما في سابقة لم تحدث منذ بداية الثورة المصرية. التكلفة السياسية للإعلان الدستوري الأخير أعادت إلى الأذهان توابع الاقتراض من صندوق النقد الدولي خلال الحقب الماضية، عندما كانت الحكومة تتعثر في تنفيذ الإصلاحات اللازمة للحصول على القرض، فيمتنع الصندوق عن دفع المزيد من الأقساط، وفي الوقت نفسه يستمر في احتساب الفائدة على إجمالي المبلغ المقترض، فينتهي الحال بأن تصبح الحكومة ملتزمة بدفع فائدة عن قرض لم تستطع الاستفادة منه. الرئاسة المصرية وقعت في فخ مماثل بإصدارها الإعلان الأخير، فهي لم تستطع الاستفادة الفعلية منه، ورغم ذلك تدفع بسببه ضريبة سياسية باهظة. فالرئيس المصري حصن قراراته من الملاحقة القضائية، ولكنه في حقيقة الأمر لن يستطيع أن يتخذ أي قرار استثنائي يستفيد في إطاره من هذا التحصين، كما أن الجمعية التأسيسية، التي استهدف حمايتها من قرارات المحكمة الدستورية، فرغت من عملها قبل موعد النطق بالحكم، ولم تعد في حاجة إلى ما يحميها من قرار بالحل كما حدث مع مجلس الشعب. ما ترتب على الإعلان الدستوري إذن إنه وضع النظام في مرمى وابل من الاحتجاجات والاعتراضات دون أن يمنح الرئاسة أي ميزة إضافية. ليس ثمة شك في أن المرحلة الحالية كانت تقتضي قرارات ثورية حقيقة، وهو ما تضمنته بعض مواد هذا الإعلان الدستوري، ولكن المنهج الذي استخدم في اتخاذ هذه القرارات قد أساء إلى المخرج النهائي، إذ يفترض نظريا أنه لو كان الرئيس قد استمع إلى مساعديه ومستشاريه لما خرج الإعلان بهذا الشكل الذي تسهل مهاجمته واستهدافه من قبل المعارضين. والأسوأ أن هذا الإعلان من غير المعلوم من اقترحه أو من صاغه بحيث يخرج بهذه الصياغة المعيبة التي لا يبدو أنها أخذت ردود الأفعال المعارضة في الحسبان. هذه الطريقة في الأداء السياسي من المتوقع أن توقع الرئاسة ومن ورائها الجماعة في مشاكل كثيرة ليس فقط مع مبغضيهم ولكن أيضا مع الجماهير المؤيدة لهم والتي منحتهم ثقتها في كافة المواجهات السياسية. هل يعني ما سبق أن الطبقة الحاكمة سوف تشهد تراجعا في الدعم الشعبي لقراراتها في المرحلة المقبلة؟ يمكن القول إن أوان هذا لم يحن بعد، فالجماهير التي طالما عارضت الكثير من المواقف الإخوانية السابقة أعطت مرشحي الإخوان رغم ذلك أصواتها في الاستحقاقات الانتخابية التي جرت منذ الثورة وحتى اليوم، ومن الواضح أنها سوف تستمر في عمل ذلك في الفترة المقبلة. وإذا مرت أزمة الاحتجاجات على الإعلان الدستوري على خير، وتم الاستفتاء على مشروع الدستور المقترح في موعده فإن الجماهير ستقف إلى جوار الرئاسة والجماعة هذه المرة أيضاً. ولكن يجب أن تعلم الرئاسة والجماعة معا أن التأييد الشعبي لهما ليس مطلقاً وأن له ضريبته التي سيتعين عليهم أن يدفعونها في وقت من الأوقات. فالجماهير التي خرجت في مليونية الثلاثاء الماضي تحت شعار الشرعية والشريعة تتوقع أن تجد من الإخوان حرصا فعليا على تطبيق الشريعة كما يفهمها البسطاء منهم، والقطاعات المعدمة التي تبتغي انفراجا في مستويات المعيشة تنتظر أن تجد ثمرة ذلك من وراء تأييدها للرئيس، وبشكل عام فإن الجماهير التي أعطت الرئيس والإخوان الفرصة تلو الفرصة تنتظر أن تجد مردودا ذلك في شكل إنجازات ملموسة. من ناحية أخرى فإن التكتل الشعبي المؤيد للرئاسة والجماعة، والذي يجد مقومات تماسكه في نزق المعسكر العلماني ومصادمته لمشاعر الجماهير، هذا التكتل يوشك أن تظهر في صفوفه اختلافات موضوعية بفعل تباين المواقف التي يتبناها كل طرف. صحيح أن الإعلام الليبرالي والنخبة العلمانية سوف يوفران على المدى القريب والمتوسط المبرر لاستمرار التأييد الشعبي الواسع لقرارات الرئاسة، إلا أن هذا لا يمنع أن استمرار الأخطاء السياسية يعرض هذا التماسك لمخاطر فعلية. ففي داخل المعسكر الإسلامي لن يكون محبذا أو مقبولاً أن يستمر الانفراد الإخواني بصياغة القرارات الكبرى، وما تم تمريره جماهيرا في الإعلان الدستوري الأخير لن يكون ممكنا تكراره في المستقبل في قرارات مماثله. أما التأييد السياسي داخل الجماعة والذي يعتمد على أبجديات السمع والطاعة فلن يلزم من هم خارجها ممن ليسوا مضطرين أن يلتزموا بنفس هذه المقومات في تعاطيهم مع القرارات الإخوانية. لا شك أن قطاعات واسعة ستمنح الدستور الجديد تأييدها، ولكن لا ينبغي أن تتصور الطبقة الحاكمة أن معنى ذلك مباركة الطريقة التي تستخدمها في إدارة البلاد، فالمصريون بعد أن تراجعوا عن استقالتهم وانخرطوا في الحياة السياسية إلى حد الانغماس يهدفون إلى أن تخصص لهم أدوارا حقيقية في عملية صناعة القرارات التي تخص مصائرهم، وهم بهذه الحيثية لن يكتفوا بلعب دور المتفرج، وسيطالبون قريبا جدا بمعرفة من يصنع قرارات الرئيس ومن الذين يستشيرهم من دون الناس، كما سيهتمون بالحصول على إجابة التساؤل: لماذا اتخذ الرئيس لنفسه هذه القائمة الطويلة من المساعدين والمستشارين طالما أن القرارات المهمة ستظل فردية لا يعرف أحد شيئا عمن قام بصياغتها أو من قام بإعدادها؟ نقلا عن صحيفة الشرق القطرية