يتضح مما سبق ذكره في المقال السابق، تقليص اللجنة التأسيسية للدستور اختصاص المحكمة الدستورية العليا، وإلغاء اختصاصها بالنسبة لدستورية القوانين واللوائح الخاصة بالانتخابات التشريعية والمحلية، علي زعم باطل يدعي انه لا يجوز للقضاء أن يراقب الارادة الشعبية الانتخابية!!، وقد سبق عند وضع مشروع قانون المحكمة رقم (48) لسنة 1978، الذي تمت صياغته عندما كنت منتدبا مستشارًا لمجلس الشعب، أنه قد نوقش باستفاضة في لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بالمجلس، وفي الرأي العام، والهيئات القضائية، مسألة الرقابة السابقة لدستورية القوانين واللوائح، واستقر الرأي الغالب علي اتباع الرقابة اللاحقة «لنفاذها» لأنه لا تظهر العيوب الدستورية لهذه القوانين واللوائح، إلا بعد الطبيق الفعلي لها ولأن الرقابة السابقة، ليست قضاء وإنما تعد افتاء كما يغلب علي هذه الرقابة السابقة، بالدول القليلة التي تأخذ بها أن تمارسها «آلية سياسية» وليست لمحكمة قضائية!! ومازال هذا الأمر صحيحا، وليس سديدًا التعديل الذي تعمدته الجمعية التأسيسية في هذا الخصوص، ولكنها قررته غالباً لأغراض سياسية أبرزها إضعاف سلطة المحكمة الدستورية وكيانها، ويؤكد ذلك وصف الجمعية التأسيسية المحكمة بأنها «جهة» وليست «هيئة قضائية» مع وضع النصوص المقترحة في فرع السلطة القضائية دون فرع متميز للمحكمة الدستورية، كما هو الشأن في دستور 1971!! كذلك فإنه ليس مفهوماً الحكم من تحديد أعضاء المحكمة في مشروع الدستور بعدد أقل من العدد الموجود حاليا إلا لو كان القصد نقل أو انهاء خدمة عدد منهم تمهيدًا للنص الدستوري المقترح. كما أن منح الاختصاص لرئيس الجمهورية وحده، منفردا في تعيينهم، يعني تحويل قضاة المحكمة الدستورية العليا إلي موظفين، بلا حصانة ولا عدم قابلية للعزل، ولا استقلال، بل إنه بذلك لا تكون المحكمة الدستورية محكمة، وإنما تصبح «إدارة قانونية» تتبع رئيس الجمهورية، أي للسلطة التنفيذية!! فالقانون الخاص بالمحكمة، يقضي بأن تشكل من رئيس وعدد كافٍ من الأعضاء، مثلما هو الأمر في قوانين الهيئات القضائية الأخري، ويجب أن يتم تعيين الرئيس والأعضاء بترشيح من الجمعية العمومية للمحكمة، أو من المجلس الأعلي للهيئات القضائية (م 5، 6 من قانون المحكمة)، وطبقاً للمادة (8) من هذا القانون، فإنه يجب أخذ رأي الجمعية العمومية للمحكمة في مشروعات القوانين المتعلقة بها!! كما نصت المادة (11) من القانون علي أن أعضاء المحكمة الدستورية غير قابلين للعزل، ولا ينقلون إلي وظائف أخري إلا بموافقتهم!! وقد نشر أن الجمعية التأسيسية لم ترد حتي الآن علي اعتراضات الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية واقترحاتها بشأن المواد المبتدعة من هذه الجمعية في مشروع الدستور، وبعد إحالة محكمة القضاء الإداري دعاوي الطعن في الجمعية التأسيسية إلي المحكمة الدستورية العليا أثار عدد من المحامين الاخوان أن توجد «خصومة» بين الجمعية والمحكمة تجعلها غير صالحة لنظر الطعون المحالة إليها، وهذا أمر غير صحيح لأن الخلاف علي مسائل دستورية وقانونية وتشريعية تتعلق بهيكل ونظام المحكمة وليست خلافات شخصية، ولا يجوز طبقاً لقانون المرافعات رد كامل أعضاء المحكمة أو علي نحو يجعلها غير قادرة قانوناً علي الفصل في الدعوي (المواد 146- 165) مرافعات، وبناء علي ما سبق ذكره يمكن القول ان الأكثرية الاخوانية السلفية في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور تتعمد الاعتداء علي نظام المحكمة الدستورية العليا فيما يختص باختصاصاتها وتشكيلها وكيانها. كما تتعمد الجمعية بالنصوص التي ابتدعتها تجاهل المبادئ الأساسية الدستورية العامة والقانونية المنظمة لهذه المحكمة علي مدي (34) عاما منذ إنشائها بالقانون رقم 48 لسنة 1978، مع اعتبار أن تنظيم هذه المحكمة واختصاصها من النظام العام الدستوري المصري!! ولا يمكن فهم ذلك إلا أنه «انحراف» في استخدام السلطة الدستورية التشريعية وذلك لتصفية الحسابات مع هذه المحكمة، بعد حكمها ببطلان مجلس الشعب، وهذا ضمن الحملة التي تعتدي علي السلطة القضائية بكامل هيئاتها إعلاميا وقضائيا بسبب الأحكام ببطلان الجمعية التأسيسية الأولي.. إلخ. وأعتقد من متابعة تصرفات الأكثرية الإخوانية السلفية، خلال الشهور الماضية سواء في المجال التشريعي أو القضائي أو الدستوري أو السياسي!! أن هذه الأكثرية لا تلتزم بالشرعية الدستورية والقانونية، ولا بالمبادئ الأساسية لثورة 25 يناير سنة 2011، وإنما تلتزم فقط بتحقيق تمكينها بالسيطرة الاستبدادية علي تفاصيل الدولة، وأجهزتها المختلفة، سواء بالطريق التشريعي المنحرف أو بواسطة «الحشد الجماهيري» الضاغط لانصار التيار الإخواني والسلفي بالميادين والذي يستهدف استعراض القوة السياسية العددية، ويبدو واضحاً أن هذا التحالف يسيء بشدة استخدام مبدأ الحاكمية لله الذي لا يتعارض مع الالتزام بالشرعية الدستورية والقانونية، التي لا تخالف شرع الله وذلك لتحقيق سيطرة هذا التحالف واستبداده السياسي والدستوري علي الشعب بمشروع مسودة الدستور، وهي محل رفض ومعارضة من أغلبية الشعب والأحزاب والجماعات السياسية والثورية في البلاد ولا حول ولا قوة إلا بالله. رئيس مجلس الدولة الأسبق