محافظ بنى سويف يناقش مستجدات مشروعات المرحلة الأولى من "حياة كريمة" بمركز ببا    بنك مصر يخفض سعر العائد على شهادتى ادخار "القمة" و"إيليت" بالدولار الأمريكي    محافظ كفر الشيخ: تسهيلات غير مسبوقة للجادين بتقنين إجراءات التصالح    حزب الله يقصف "زوفولون" بالصواريخ ويتصدى لمحاولة تقدم قوات الاحتلال لميس الجبل    عصام عبد الفتاح: كلاتنبرج وبيريرا أثبتا فشل تجربة الأجانب مع لجنة الحكام    سلوت يستقر على بديل أليسون بيكر في ليفربول    جريمة غامضة.. تحقيقات موسعة لفك طلاسم العثور على جثة طفلة بالسلام    ضبط 2600 كيلو سكر تموين مدعم قبل بيعه فى السوق السوداء بالبحيرة    سقوط سيارة ملاكى من أعلى كوبرى أكتوبر وإصابة قائدها.. صور    وزارة التعليم: 3 نماذج لأسئلة امتحان كل مادة لاختبار شهر أكتوبر    توصيات الحوار الوطنى تتصدر أجندة "إعلام النواب" خلال دور الانعقاد الخامس    الفائز بجائزة نوبل فى الفيزياء يحذر من مخاطر الذكاء الاصطناعى    إيمان العاصى:نور الشريف طلب وضع اسم أحمد عز قبله بمسجون ترانزيت والأخير رفض    منشآت هيئة الرعاية الصحية بأسوان تستقبل وفدًا من منظمة الصحة العالمية    فالفيردي: مبابي أخرس الجميع.. وأشكر الله على وجوده معي بالفريق    بعد رحيله عن ليفربول.. يورجن كلوب يُحدد وجهته المقبلة    إحالة عدد من العاملين بمدرستين في الفشن ببني سويف للتحقيق    خبير اقتصادي: قرار حظر تدابير الدولار لاستيراد السلع الترفيهية "حماية للاحتياطيات الأجنبية"    إصلاح وتجديد.. خطة عاجلة لإنشاء خط طرد جديد 1200 مم بمياه أسيوط    مصر الخير تطلق 22 شاحنة مواد غذائية لأهالي شمال سيناء    تقلبات جوية حتى منتصف الأسبوع.. الأرصاد تكشف طقس الأيام المقبلة    مصرع سباك إثر سقوطه من الطابق الخامس أثناء عمله بالشرقية    الأقوى على مر التاريخ.. إعصار ميلتون يصل ولاية فلوريدا الأمريكية    برلماني: تفتيش حرب الفرقة السادسة رسالة مهمة للداخل والخارج    بينها مجلس للجامعات الأهلية.. 8 قرارات حكومية عاجلة في الاجتماع الأسبوعي    فيلم عصابة الماكس يحتل المركز السادس في منافسات شباك التذاكر    رحمة رياض تنضم لفريق لجنة تحكيم برنامج "X Factor"    بين الماضي والحاضر في الأهلي.. محمد رمضان الذي "لا يعرف إلا الأبيض والأسود"    «الصحة» تبحث تقوية نظام الترصد الوبائي باستخدام التحول الرقمي مع الأمم المتحدة    وائل جسار يعلن تأجيل حفله بمهرجان الموسيقى العربية    رئيسة قومي الطفولة تبحث مع مفوضية اللاجئين إنشاء فروع جديدة للمجلس    وزارة الصناعة توقع وثيقة تعاون مع منظمة العمل الدولية    "رحلة حامل".. تفاصيل مذكرة تفاهم ضمن مبادرة العناية بصحة الأم والجنين    أخبار الأهلي : 3 قنوات مفتوحة تنقل مباراة الأهلي والعين في إنتركونتيننتال    انطلاق برنامج البناء الثقافى لأئمة سوهاج.. صور    رئيس المركز الاعلامى لمبادرة ألف قائد: تأهيل شباب مسؤولية ولا غنى عن عودة المجالس المحلية    «العدل» يعلن إعادة الهيكلة واستحداث أمانات جديدة لتعزيز الأداء    أخبار الأهلي : صفقة تبادلية بين الأهلي وزد ..تعرف على التفاصيل    جامعة بنها تنظم قافلة طبية متخصصة في أمراض العيون بقرية بطا    فريدة الشوباشي: إسرائيل تكتب نهايتها بأيديها    ممثلة الأمم المتحدة للمرأة في فلسطين: نساء غزة يواجهن فظائع لا يمكن تحملها    وكيل زراعة الإسكندرية يتفقد منطقة آثار أبو مينا ببرج العرب لرصد المشاكل    بشرى سارة على صعيد العمل.. حظ برج الثور اليوم الأربعاء 9 أكتوبر 2024    لماذا رفضت منال سلامة دخول ابنتها أميرة أديب مجال الفن؟    تمنى وفاته في الحرم ودفنه بمكة.. وفاة معتمر مصري بعد أداء صلاة العشاء    الرمادي: اعتذرنا للزمالك لعدم بيع بيكهام.. وأخطأنا في رحيل خالد صبحي للمصري    جنود إسرائيليون فى رسالة تحذيرية: إما وقف إطلاق النار أو التوقف عن الخدمة    مسئول أممى: الجيش الإسرائيلى يهاجم لبنان بنفس الأساليب التى يستخدمها فى غزة    جيش كوريا الشمالية يعلن إغلاق الحدود مع كوريا الجنوبية بشكل دائم    المشاط: المنصات الوطنية ضرورية لترجمة الاستراتيجيات إلى مشروعات قابلة للتمويل وجاذبة للاستثمارات و"نُوَفِّي" نموذج عملي    محافظ أسيوط يتفقد مركز بني محمديات المتميز للخدمات الصحية للأم والطفل لبحث تشغيله ودخوله الخدمة    بالأسماء، السماح ل 21 شخصًا بالتنازل عن الجنسية المصرية    الحالة المرورية بشوارع وميادين القاهرة الكبرى.. الأربعاء 9 أكتوبر    أمين الفتوى: الوسطية ليست تفريط.. وسيدنا النبي لم يكره الدنيا    اليوم.. الجنايات تستكمل محاكمة المتهمين بقتل طفل شبرا الخيمة    هدنة غزة.. «رويترز» تكشف عن خطوة مفاجئة من قيادات حزب الله والسبب لبنان    الدعاء وسيلة لتحسين العلاقة بالله وزيادة الإيمان    الدعاء كوسيلة للتخلص من الهموم وجلب الطمأنينة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضمير الثقافة القومية
نشر في الوفد يوم 30 - 11 - 2010

بعد أيام قليلة يكون الدكتور، أو الدكاترة »زكي مبارك« قد أمضي تسعة وخمسين عامًا في قبره، حيث قد رحل في الثالث والعشرين من يناير عام اثنين وخمسين بعد التسعمائة والألف. ومنذ رحيله وإلي اليوم تمر ذكراه مرور الكرام، كأنه قد حكم عليه أن تجحده الأوساط الثقافية حيا وميتًا، مع أنه من القلائل البنائين في حقول العلم والثقافة في عصرنا الحديث. أقام أبنية شامخة وصروحًا سامقة هيهات أن ينال منها الزمن، بمؤلفات موسوعية عظيمة الشأن لم يظهر لها مثيل حتي الآن، ولسوف تظل أبد الدهر مصدرًا ثريا لمن يريد فهم واستيعاب الثقافة العربية الأصيلة علي النحو الصحيح؛ وبالأحري لمن يريد أن يصل جذوره بأرضها.
ولربما كان لزكي مبارك آراء صادمة مثيرة للجدل، ناهيك عن صياغتها البلاغية الحادة بل الشديدة الحدة أحيانًا، لا تهاب كبيرًا أو عزيزًا في قولة الحق، حيث كان يمارس النقد والتحقيق والتوثيق والمراجعة بروح وأسلوب المستغني عن كل المكاسب المادية، المتحرر من المجاملات ومن نفوذ العلاقات الشخصية كل ما يعنيه - إذ هو يكتب - هو أن رأيه مبني علي أسانيد من العقل والشعور والوجدان فيما يري أنه الحقيقة، وأن يكون في كل ما يكتب متسقًا مع ضميره الذي كان أضخم ما فيه، وكانت لضخامته ظلال وارفة تمتد علي مساحات كبيرة، فتضعف الضوء في بعض الأشياء، وتحجبه عن بعض الجوانب التي لو رؤيت في ضوء كاف فلربما غيرت من رأيه أو عدلته علي الأقل. لكن الجميل فيه أنك تري هذا وتدركه بوضوح أثناء قراءتك له سواء في أبحاثه أو في مقالاته الصحفية أو دراساته النقدية أو مراجعاته للكتب الصادرة حديثًا، فلا تحنق عليه، فلسوف يشفع له ضميره عندك، ولسوف يملؤك برحيق فيه شفاء، ويضيء في عقلك عشرات المصابيح، هي نفسها التي تغريك بضوئها علي أن تراجعه وتنتقده وأنت علي تمام الثقة بأنك لو جاهرته بنقد لك فيه فإنه متلقيه علي الرحب والسعة، فإن كان رأيك صائبًا فهو أول من يصفق لك بالتحية والإعجاب، أما إن كان رأيك، والعياذ بالله، فجا غير مدروس، فعليك - يا حلو - أن تتلقي وعدك: إن الإنس والجن إذا اجتمعوا لن يفلحوا في تخليصك منه إلا وقد سواك علي الجنبين وعلمك كيف تراجع الكبار بل أن تنتقدهم!
علي أن أفضال زكي مبارك علي الثقافة العربية المعاصرة لا ينكرها إلا موتور أو جاهل. هي منجزات علمية لم تكن تتحقق علي هذا النحو من الدقة والأمانة العلمية إلا علي يدي رجل كزكي مبارك علي وجه التحديد، ينذر لها عمره وصحته، ويضحي بكل ما كان يجب أن يتمتع به من رفاهية وأبهة اجتماعية تليق باسمه ومكانته العلمية ومركزه الأدبي ويحرم عياله من بحبوحة كان جديرًا بتحقيقها لهم. كل ذلك في سبيل أن ينجز هذه المشاريع الثقافية الضخمة المبهرة، التي تحتاج في كل مشروع منها إلي مؤسسة كبيرة تضم عددًا من الرجال الأصحاء بدنيا ونفسيا وعقليا. إن القارئ المعاصر حين يتصفح سفرًا من أسفاره مثل: (النثر الفني في القرن الرابع الهجري) - بجزئيه الكبيرين - يكاد لا يصدق أن فردًا واحدًا يقدر علي النهوض بعمل كهذا وحده؛ أن يقوم بحرث قرن كامل من الزمان اتسم بين القرون الهجرية بغزارة الكتابات الأدبية النثرية وتنوعها وعمقها؛ ثم يقوم بفرز وغربلة كل هذا الركام من الكتابات، وتحليلها وفحصها، وإخضاعها للدرس والتقويم، وتجليتها؛ ثم بعثها إلي الوجود من جديد بعد طول هجران وغفلة، مبرزاً ما تحتويه من قيم فنية وأدبية وأخلاقية إيجابية أصيلة لا يمكن تعويضها.
كذلك الأمر بالنسبة لكتابه الكبير عن الأخلاق في الأدب والتصوف، وهو أيضًا من جزءين ضخمين، ثم كتابه الكبير: (الأخلاق عند الإمام الغزالي). وكتابه عن عبقرية الشريف الرضي، الذي يعتبر وحده كتابًا فذًا فريدًا غير مسبوق ولا متبوع، فعلي حد علمي يعتبر هذا الكتاب هو الوحيد الذي يقدم شاعرًا خطيرًا بشكل متكامل من الألف إلي الياء، بحيث يقف من يقرأه علي عبقرية الشريف الرضي ويفهم أبعاد شعره وما يتضمنه من جواهر إبداعية. نعم! لست أظن أن كتابًا نقديا بلغ ما بلغه هذا الكتاب من إحاطة ودقة ونفاذ وعمق في اكتشاف البيئة الفنية وامتداد جذور الشاعر في أرضها، واستكشاف العلاقة الجدلية الخصيبة بين الشاعر ومجتمعه وعصره وتراثه، لعله من المثير للدهشة والمرارة أن معظم هذه الكتب العظيمة لم تنشر في مصر إلا في طبعات محدودة، في حين تتخاطفها دور النشر العربية وتحقق من ورائها ثروات طائلة.
سيظل زكي مبارك يمثل في نظري قيمة عربية عظيمة، إلي جانب كونه قيمة إنسانية أكثر عظمة. إنه نموذج للأزهري الذي شمخ بأنفه عن جدارة، وواجه الحياة الغربية الأوروبية ونهل من ثقافتها الخلابة، بقلب سليم وروح قوية وجبهة عالية. لقد علم نفسه اللغة الفرنسية باجتهاده الخاص. وكان قد حصل من الأزهر الشريف علي شهادة »الأهلية«؛ ثم التحق بالجامعة المصرية التي لم تكن بعد قد صارت حكومية في سنة خمس عشرة بعد التسعمائة والألف. فما أن تخرج فيها حتي شد الرحال إلي باريس كسلفه القريب طه حسين، وسلفهما رفاعة رافع الطهطاوي.
وحين سافر زكي مبارك إلي باريس كانت تلك الحكاية حاضرة في وعيه، سيما وقد شاهد نماذج كثيرة من المبعوثين الذين عادوا بسحن مختلفة وألسنة ملكونة وزوج بيضاء وفرنجة كاملة عزلتهم عن أصولهم وأنكرتهم أصولهم. فكان زكي مبارك محصنًا ضد الدهشة، ضد الصدمة الحضارية المبدئية التي واجهت من سبقوه فصدَّعت بنيانهم الشخصي والنفسي والعقائدي فتحولوا إلي كائنات »بزرميط«. وذلك طبعًا باستثناء نماذج فذة كطه حسين وتوفيق الحكيم وأمثالهما ممن تمكنت منهم أصولهم قبل السفر فهيهات أن تتزعزع وإن اهتزت قليلاً إلا أنها هزات إيجابية جعلتهم ينتبهون إلي المفارقات الجوهرية بين أصولهم وما طرأ عليهم من ثقافات مختلفة ومن ثم أعطتهم مصابيح علمية استناروا بها فأناروا لشعوبهم بعد عودتهم.
غير أن زكي مبارك وهو يدلف داخل جامعة السوربون بخطي واثقة كان ثمة حقيقية تاريخية ماثلة في يقينه فلم يكن لينسي مطلقًا أن جامعة السوربون هذه قد أنشئت في الأصل تقليدًا ومحاكاة للجامع الأزهر والتدريس علي غراره. كذلك لم يكن لينسي أن ثقافته العربية الإسلامية هي التي لقحت العقل الأوروبي ببذور العلم والثقافة ورمت علي شواطئه طمي الخصوبة الإنسانية.
والواقع أن بذور المقاومة كانت قد نمت في قلبه منذ وقت مبكر، منذ أن غادر قريته (سنتريس) بمحافظة المنوفية قادمًا إلي القاهرة ليلتحق بالأزهر، حينذاك فوجئ بأن القاهرة قد بدأت تخلع برقع الحياء وتتخلي عن الكثير والكثير من أخلاقيات المصريين وتقاليدهم الأصيلة في ثوبها العربي القشيب. كانت الكذبة المروعة - أو هكذا يراها - التي أطلقها الخديو إسماعيل معبرًا بها عن اعتزامه جعل مصر قطعة من أوروبا قد ظهرت ثمارها في شكل البيوت وكرنفال الملابس وتناقضات السلوك وكثير من الظواهر المرضية المقلقة. وكانت الظاهرة الكبري المتضخمة تتمثل فيما يشبه الطبقة الجديدة التي راحت تسلك وتفكر وتعيش بطريقة أوروبية صرفة، وتلوي اللسان عنوة لتطوعه للنطق باللكنة الفرنجية، وتسري الطراوة في اللهجات والطباع بشكل أثار تقززه كفلاح صلب خشن. ولم يكن يشعر بهذه الغضاضة سوي نفر قليل جدًا من أبناء الفلاحين الأفحاح. وكان المقلق أن أبناء الشعب الأمي في القاهرة والعواصم الإقليمية قد جبلوا علي تقليد أبناء الطبقات العليا المجبولين بدورهم علي محاكاة المستعمر والتشبه به في كل شيء. وثمة فئة قليلة من نوابغ أبناء الطبقة المتوسطة الزراعية الحريصين علي طلب العلم ولو في الصين كما أوصي النبي عليه الصلاة والسلام، والمزودين في نفس الوقت بثقافة قومية قوية، كانوا يتميزون غيظًا وغضبًا إذ يرون القاهرة وبقية العواصم قد أصبحت تموج بكل التناقضات السيئة، وتضطرم بأجناس عديدة، وجاليات لا حصر لها تنشر في المجتمع أمراضًا سلوكية وصورًا من الانحلال يندي لها جبين الوطنيين، فيزداد الشعور بالمحنة عمقًا في نفوسهم. بعضهم كان يصاب بالقهر والعجز عن المقاومة وعن المسايرة في نفس الآن. والبعض الآخر وهو الأقوي والأكثر كان يتمسك بجذوره القومية في صلابة وإصرار إلي حد التعصب الأعمي أحيانًا بحيث يرفض كل ما هو أجنبي بشكل مطلق.
ولم يكن زكي مبارك من هؤلاء ولا من أولئك وإن أخذ من كل منهما بعض العيوب وبعض المزايا.
»يتبع«


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.