يتدافع مطلب إنشاء مجلس مصري للأمن القومي, إلي صدارة أكثر المطالب الوطنية إلحاحا, حتي يعوض مصر. عن الحلقة المفقودة في إدارة شئون البلاد. فنحن نحتاج الي صياغة استراتيجية أمن قومي متطورة, تتعامل مع كل ما تغير في العالم, في مفهوم الأمن القومي للدول, ومفهوم الأمن العالمي, فيما يخص المجتمع الدولي, ومع ما تكالب علي مصر في سنوات الفراغ الاستراتيجي, من زحف مهددا الأمن القومي التي كانت تتوالي وراء بعضها, كأنها تشكل حزام حصار علي قدرة مصر علي الحركة والمبادرة. وحين لا تكون مالكا لاستراتيجية أمن قومي, ترقي الي مستوي عصر ثورة المعلومات, وتحولات النظام العالمي, وايضا السياسات الخارجية لدول العالم, فإنك تكون مثل ملاكم هاو, وقف في حلبة الملاكمة, يتلقي الضربات من محترفين يجيدون أصول اللعبة. وليست هذه هي المرة الأولي التي نطلق فيها هذه الدعوة, فقد سبق ان نادي بها في مقال مهم, السفير والسيد أمين شلبي قبل أربع سنوات, ويومها طلب مني أن أشارك في هذه الدعوة, ونشرت فعلا مقالاتي علي هذه الصفحة, ثم واليت هذه الدعوة في كتابي مأزق الديمقراطية في فصل بعنوان مجلس مصري للأمن القومي. ومبدئيا فإن استراتيجية الأمن القومي هي فن وعلم التطوير, والتطبيق والتنسيق, بين أدوات القدرات الوطنية للدولة, من دبلوماسية واقتصادية وعسكرية وثقافية ومعلوماتية, متضمنة وسائل الحشد الغريزي للرأي العام, لتحقيق أهداف الأمن القومي. ولعل أبرز أشكال هذه المجالس وأكثرها تأثيرا بالنسبة لدوره في العالم, هو مجلس الأمن القومي الأمريكي, الذي كانت بداية إنشائه في عام1947, في عهد الرئيس ترومان. وان كان لم يتحول إلي قوة محركة للدولة إلا في سنوات حكم نيكسون, والدور الذي لعبه هنري كيسنجر, الذي حول المجلس الي مؤسسة حديثة متطورة حتي إنه كان يوصف باللجنة التي تدير شئون العالم. وحين تولي أوباما, وقد أدركت الولاياتالمتحدة ان العالم يتغير فانه أدخل تغييرا شاملا في تركيبة المجلس, وزيادة صلاحياته في رسم استراتيجية البلاد, بحيث تعطي مجالا واسعا من الشون الداخلية والدولية, بالاضافة الي إعادة النظر في التطورات التقليدية, عن دول ومناطق إقليمية, ليتماشي ذلك مع التغييرات الجارية في العالم. وعلي ضوء الوضع الراهن في مصر, وما كان يجري من حولها وفي العالم سيكون السؤال: ما الذي تحتاجه مصر في المرحلة المقبلة؟ 1 تحديد رؤية مصر لمعني الأمن القومي بناء علي الكثير من المفاهيم المتغيرة, مثل التغيير الحادث في معني قوة الدولة, بعد صعود أهمية ودور مكونات أخري, بخلاف القوة العسكرية, وصارت تعطي الدولة قيمة ووزنا ومكانة. 2 فرز وتحديد المصادر المستجدة المهددة للأمن القومي, في عصر ثورة المعلومات, وتنوع هذه المصادر, وحركتها المنسابة بين ما هو خارج الحدود وما هو داخل الدولة. 3 وضع قواعد للتعامل مع التحولات في مفاهيم الأمن القومي للدول الأخري, حتي لا يتوقف التفاعل معها عند حد ردود الأفعال, دون المبادرة بالفعل أو علي الأقل بالحوار المتكافئ. ويلاحظ منذ إعلان الولاياتالمتحدة استراتيجية الأمن القومي الجديد عام2002, فقد بدأت سياستها الخارجية تتخذ مواقف لا تنظر الي الشأن الداخلي لدول أخري, علي انه شأن داخلي, معتبرة أنه يؤثر بشكل غير مباشر علي أمنها القومي طالما أن هناك غيابا للديمقراطية واحترام لحقوق الإنسان. وقد اتفقت مع هذا التوجه سياسات دول أوروبا, وهو ما أدي إلي إعادة صيانة مفهوم الأمن العالمي. ولم يتغير هذا الاتجاه بل لقي تمسكا به من جانب الرأي العام والبرلمانات في الولاياتالمتحدة وأوروبا حتي الآن. 4 منذ انتقال خط المواجهة الي الداخل, متزحزحا من مكانه التقليدي علي الحدود, بفعل عاملين, أولهما تنشيط وسائل ثورة المعلومات من الانترنت والفضائيات وغيرها, وثانيهما التعبير المشار إليه من مفاهيم الأمن القومي للقوي الكبري, فقد أصبح خط المواجهة في الداخل عبارة عن سور فيه من الفراغات أكثر مما فيه من الحصون نتيجة غياب الديمقراطية, لأن من الطبيعي ان يكون البشر في الداخل هم القلاع الحصينة علي هذا الخط. ولعلنا عايشنا ما أنتجه الجفاف الديمقراطي عندنا من انتشار ظواهر السلبية وعدم الانتماء واللامبالاة والانكفاء علي الذات, ابتعادا عن التكاتف الجماعي وهو ما اختفي في لحظات عند انطلاق ثورة25 يناير حين شعر الجميع بأنهم قادرون علي انتزاع حقهم في وطنهم. 5 والبشر أيضا يقع علي عاتقهم نجاح أي مجتمع. وهو ما يعني ان هناك ضرورة وطنية لبدء ثورة في التعليم, تنهي نظاما تعليميا راكد ومتخلفا, حرص دائما علي قتل إعمال العقل, والقدرة علي التفكير واستقلالية الرأي, في المدارس, وايضا في التعليم الجامعي الذي يحتاج تطويرا عاجلا يرتقي بالبشر وملكاتهم ومهاراتهم ليكونوا قادرين بعد التخرج علي الإبداع وإطلاق الخيال, وابتكار رؤي وأساليب تناسب العصر. 6 في زمن الندرة في المواد الاقتصادية, وصعود القدرة الاقتصادية التنافسية, الي قمة مكونات الأمن القومي, والمكانة المتزايدة للأمن الاقتصادي, لابد ان توضع استراتيجية مشروع قومي للتنمية الاقتصادية, بمقاييسها المعاصرة وان يعاد النظر في إحياء مشاريع قتلت في عهدها, لصالح سياسات تعظيم الاستيراد وما يجلبه من عمولات علي حساب الإنتاج. والنموذج الشاهد علي ذلك هو المشروع القومي لتنمية سيناء, الي جذب مشروعات أخري عديدة تحتاج إطلاقها. والأهم هو ان ينشأ مجلس الأمن القومي, يضم أعلي مستويات الخبرة والمعرفة والرؤية السياسية والاستراتيجية والتنوع الوطني والتعددية الفكرية, لتجهيز خيارات استراتيجية ليس فقط للتعامل مع ما هو قائم من تحديات بل أيضا لما قد يستجد من تحديات أخري مستقبلا. المزيد من مقالات عاطف الغمري