رغم مرور شهر على وقائع معركة التحرير والتي كانت نقطة فاصلة أبقت على جذوة الثورة، وأجهضت تداعيات خطاب عاطفي للرئيس المخلوع حاول من خلاله خداع الشعب، فإن الكلمات لم تنجح حتى الآن في نقل تفاصيل وأسرار المعارك الفاصلة التي شهدها الميدان يوم الأربعاء 2 فبراير، فيما عرف بموقعة عبدالمنعم رياض، وغزوة قصر النيل، ومعركة طلعت حرب ، وما سبقها من بدايات حرب شنها البلطجية فيما عرف إعلاميا ب"موقعة الجمل". من سمع ليس كمن رأى، فليل التحرير أعاد للأذهان مشاهد الانتفاضة الفلسطينية، وسط زجاجات المولوتوف والرصاص الحر في أجواء ملحمة بطولية سطرها المعتصمون بالميدان على أكثر من جبهة في مواجهة جيش من البلطجية وأرباب السوابق ورجال الأمن، ربما تخرج للنور في عمل سينمائي يكشف جريمة نظام حاول الثأر والانتقام من ثوار التحرير الذين نجحوا خلال هذا اليوم في حماية الثورة، وكتبوا شهادة بقائها ونجاحها. نساء الحجارة في ظلمة الليل انطلق حشد من فتيات ونساء التحرير يستنفر الشباب "حي على الجهاد .. الله أكبر .. حي على الجهاد " ، التقطت بعضهن الحجارة في محاولة للتقدم للصفوف الأمامية للذود عن الميدان ، يصرخن .. لسن أقل منكم .. نريد أن يكن منا سمية أم عمار بن ياسر وآيات الأخرس ووفاء إدريس . المشهد كان كافيا لاستنفار الآلاف من الشباب، فرق لتكسير الحجارة ، وأخرى لتزويد الخطوط الأمامية بالمؤن، وثالثة تشكل خطوطا دفاعية أمام وخلف تمثال عبدالمنعم رياض، وبالمثل كان المشهد على خطوط المواجهة أمام قصر النيل، والجامعة الأمريكية، وعمر مكرم، وطلعت حرب. فرق للسقاية، وأخرى لمداواة الجرحى، وثالثة لدق طبول الحرب من خلال الطرق على الصفائح لتحفيز الهمم وإيقاظ النائم الذي جاء للتظاهر سلميا فهاجمته عصابات الغدر والانتقام، وإذاعة ثورية تبث "خلي السلاح صاحي .. صاحي" ، ورجال العالم المجاهد "العز بن عبد السلام" ينتشرون في الميدان بعضهم يبث روح الجهاد بين شباب التحرير، وآخر يدعو بالنصر والثبات، وثالث يصلي قائما يطلب المدد من الله، ورابع وخامس يتقدم الصفوف الأمامية فيشق جبينه وتخضب الدماء عمامته وزيه الأزهري. خطوط دفاعية يؤمن الثوار صفوفهم الأمامية في موقعة عبدالمنعم رياض -الأشد ضراوة-، يعتلون أسطح العقارات لتوفير غطاء جوي للميدان، وفرق إمداد المؤن تبتكر حلولا مذهلة لتزويد المجاهدين، خوذات من الكارتون والصفيح لحماية رؤوس المنتفضين من الحجارة، ودروع من الصفيح والخشب لصد هجمات البلطجية، وأكياس من الزجاج المتناثر لردع المقتحمين، وخوفا من هجوم بالكلاب البوليسية -كما أشيع في الميدان قبيل الفجر- جرى بسرعة تجهيز خطوط دفاعية من أكياس القمامة ورش كميات من البنزين عليها لإشعالها لصد هجوم متوقع من هذا النوع. عدد من عربات ومركبات الجيش التي احتمى جنودها بالمتحف المصري بعيدا عن زجاجات المولوتوف وطلقات الرصاص الحي كانت مصدر تزويد للمحتجين بالبنزين، وتأمين احتياجاتهم لإعداد زجاجات حارقة تردع هجوم البلطجية أعلى كوبري 6 أكتوبر. إذاعة الميدان تبث الأنباء الواردة من مختلف الجبهات .. هذه جرى تأمينها ، تلك تحتاج لأعداد إضافية ، وأخرى تتطلب مؤنا عاجلة ، وتعزيزات من الرجال في طريقها نحو الميدان، وهذه فتوى تطالب المصريين بإغاثة الميدان، وصرخات استغاثة تطلب مؤنا طبية عاجلة، وعربات الإسعاف لا ينقطع صفيرها تنقل هذا وذاك ما بين شهيد وجريح ، ونداءات بالثبات حتى وصول المدد حتى لا يسقط "التحرير". ملامح النصر كان الأمر أشبه بمعركة حربية.. فرق تؤمن مخارج المترو مخافة هجوم من تحت الأرض، وأخرى تحرس الأسرى وتوثق جرائمهم وبطاقات عضويتهم في الحزب الوطني، وثالثة لنقل الجرحى للمستشفى الميداني، ورابعة لتفتيش عربات الإسعاف خشية إستخدامها لإدخال بلطجية إلى الميدان، وخامسة تنقل لوسائل الإعلام أصداء المجزرة التي تحدث بحق المحتجين طوال 18 ساعة في معركة راح ضحيتها 10 شهداء وقرابة ألفي جريح. قطرات مطر كانت بردا وسلاما .. وبشرى نصر يلوح، وأكف عجائز من الرجال والنساء تبتهل إلى الله بالثبات والنصر، ونظرات أطفال حوصروا بأسرهم يملؤهم الخوف.. أذان الفجر يصدع في الميدان، طائفة تسجد، وأخرى تأخذ حذرها وأسلحتها. بزغ ضوء النهار، ومعه شعاع شمس مشرقة تحمل بصمات جريمة حرب ارتكبها نظام مستبد، وبقايا معركة طاحنة ستظل محفورة في الذاكرة، ودماء شهداء وجرحى سطروا شهادة ميلاد جديدة لثورة التحرير.