سمعنا كثيرا في مصر منذ ثورة 25 يناير عما يسمى "لجان تقصي الحقائق" في العديد من الأحداث والمواقع بدءا من جمعة الغضب ومرورا بموقعة الجمل وإمبابة وماسبيرو ومحمد محمود وبورسعيد، وغيرها، إلا أن تلك اللجان كانت لمجرد تهدئة الرأي العام بقرارات وتوصيات لم تدخل حيز التنفيذ، وغالبا ما نظرت تلك اللجان إلى الأمور بعين واحدة لإرضاء هذا الطرف أو ذاك. ورغم أن ما شهدته مملكة البحرين من أحداث في شهري فبراير ومارس من العام الماضي لا يقارن تحت أي ظرف من الظروف بما شهدته مصر منذ اندلاع الثورة وحتى وقتنا هذا إلا أن طريقة تعامل الحكومة البحرينية مع الأمور كان مختلفا، رغم أن المسمّى واحد، وهو لجنة تقصي الحقائق، إلا أن هناك فرق بين تقصي حقائق يكون الهدف منها "التهدئة" وبين أخرى يكون هدفها الوصول إلى حقائق وترجمتها إلى توصيات يتم تطبيقها بالفعل على أرض الواقع. في مطلع العام الماضي، ومع بدء موجة الثورات العربية المعروفة غربيا بإسم "الربيع العربي" ، خرج شيعة البحرين في احتجاجات للمطالبة بدور سياسي أكبر في المملكة الخليجية، وبالطبع فإن هذا الطلب كان مغلّفا بالمطالب الخاصة بتحسين الأوضاع الاقتصادية، مثلما كان الحال في بقية الدول الثائرة في العالم العربي. وكالعادة فإن المظاهرات لا يمكن أن تمرّ دون تعامل أمني من السلطات الحاكمة، ولأن التعامل الأمني دائما ما يؤدي إلى العنف والعنف المضاد فقد سقط ما يقرب من 35 قتيلا، 30 من المدنيين، و5 من الشرطة، في تلك الأحداث، إضافة إلى مئات الجرحى في الأحداث التي شهدها "دوار اللؤلؤة" الشهير في وسط العاصمة البحرينية المنامة. ورغم أن "دوار اللؤلؤة" الآن تحول إلى ثكنة عسكرية لمنع تكرار تلك الأحداث، وهو الحل الأمني المعتاد، إلا أن الحكومة البحرينية لجأت إلى حل آخر فريد من نوعه، وهو تكليف لجنة خاصة مستقلة لتقصي الحقائق في تلك الأحداث، وكلّفت البحرين خبير القانون الدولي الشهير البرفيسور محمود شريف بسيوني برئاسة تلك اللجنة، ورغم أنها لجنة مشكلة من قبل الحكومة إلا أنها أدّت دورها بقدر كبير من الحيادية والموضوعية. فقد قامت تلك اللجنة بإجراء آلاف من المقابلات والاستماع إلى آلاف الشهادات عن الأحداث، في محاولة لتكون رؤية شاملة لحقيقة الوضع، وخرجت اللجنة بتقرير أدانت فيه الحكومة البحرينية في كثير من الأمور، ومنها استخدام الأجهزة الأمنية للعنف المفرط ضد المتظاهرين، واستخدام وسائل التعذيب ضد بعضهم، واضطهاد بعض المتظاهرين سواء في أعمالهم أو دراستهم، واللجوء إلى حالة الطوارئ في اعتقال مطلوبين من منازلهم في ساعات متأخرة من الليل. إلا أن اللجنة أيضا لم تعف المتظاهرين "الشيعة" من المسئولية، فقد اتهمتهم أيضا باللجوء العنف في التعبير عن مطالبهم، إضافة إلى استهداف رجال الشرطة والأمن في البحرين، واستهداف أفراد من الطائفة السنية في المملكة في العديد من الاعتداءات. ورغم أن التقرير أدان الحكومة والمتظاهرين على حد سواء، فإن الحكومة البحرينية قبلت التقرير في 23 نوفمبر الماضي، وشكلت لجنة أخرى لمتابعة تنفيذ توصيات لجنة تقصي الحقائق. وبعد ما يقرب من 100 يوم، أعلنت لجنة المتابعة برئاسة رئيس مجلس الشورى البحريني علي الصالح اليوم الثلاثاء 20 مارس، عن عدد من الإجراءات الملموسة على أرض الواقع، وقدمت تقريرها إلى العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ومن بين الإجراءات التي تم اتخاذها: 1- تحويل جهاز الأمن الوطني إلى هيئة استخبارية لا يمكن لها اعتقال أو توقيف المواطنين بصورة منفردة. 2- إقالة رئيس الشرطة في البحرين، ومحاكمة 20 من رجال الأمن ثبت استخدامهم للعنف ضد المتظاهرين. 3- الاستعانة بالشرطة الدولية في إصلاح جهاز الشرطة البحريني. 4- صياغة مدونة لقواعد سلوك قوات الأمن بما يتطابق مع معايير الأممالمتحدة. 5- إعادة بناء دور العبادة المهدمة، وبالفعل بدأ العمل في بناء 5 من دور العبادة. 6- إسقاط جميع التهم الخاصة بحرية التعبير. 7- تعديل 20 مادة في الدستور البحريني، من أجل برلمان كامل الصلاحيات، ومزيد من المحاسبة للحكومة، وزيادة اصلاحيات التشريعية والرقابية لمجلس النواب. 8- تعديل المناهج التعليمية بالتعاون مع منظمة اليونسكو من أجل مزيد من التوافق والتسامح وقبول الرأي الآخر. 9- إعادة جميع المفصولين إلى أعمالهم ودراستهم ما لم يكونوا متهمين في قضايا جنائية. أدت تلك الإجراءات الحكومية إلى قدر كبير من الهدوء في المملكة الصغيرة، ورغم بعض المناوشات المتقطعة بين الشيعة وقوات الأمن في مناطق متفرقة من البحرين إلى أن الأمور تتجه نحو الهدوء في تلك الدولة ذات الأهمية الاستراتيجية التي يعتبرها كثير من المحللين السياسيين حلبة للصراع بين السعودية "السنية" وإيران "الشيعية".