كتبت- بوسي عبد الجواد فقدت مصر ، رافدا من روافدها الناعمة وآحد آدبائها الكبار صبرى موسى ، أحد رواد الرواية العربية، ورائد أدب الصحراء. لم يكن يعلم رجل الصحراء الكاتب والروائي الكبير، الذي كان يقضي ساعات طوال بمفرده داخل صومعته الفكرية والآدبية للخروج ما في جعبته من إبداع على شكل أحرف وسطور لتضع أسمه بجانب كبار الآدباء والشعراء في الوطن العربي، أنه سيأتي عليه يوم يبعده المرض رغما عنه على الانعزال عن المجتمع والعيش بقيه عمره داخل صومعته، رافضا أن يراه أحد في مرضه. لم تقف إبداعاته عند حدود الجغرافيا، ولم تمنعه حدود وطنه من الوصول إلى مختلف بقاع الأرض بمؤلفاته ورواياته الآدبية، إذ ترجمت أعماله لعدة لغات، أخرهم ترجمة روايته الشهيرة "فساد الأمكنة" إلى اللغة الصينية مع شركة "بيت الحكمة" بالصين، ضمن مشروع تبادل الترجمة بالنشر بين الصين والدول العربية. لم يأتي "أيوب الثقافة" الذي لقبه به المثقفون والآدباء، من فراغ، حيثُ تحمل ما يزيد عن أثني عشر عاما آلام المرض المبرحه التي كانت تنهش في جسده يوما بعد آخر، صامتا دون شكوى أو ضجيج في وسائل الإعلام متحملا تكاليف علاجه، ففضل أن يترك الساحة الآدبية قويا كما عرفه أصدقاءه والمقربين منه ومن نال شرف العمل معه. إذا كان المرض نجح في ابتعاده عن المجتمع، إلا أنه لم يفلح في ابتعاده عن الإبداع والقراءة، حيثُ كان يتابع عن كثب ما يحدث في الشارع المصري من أحداث سياسية وثورات الربيع العربي من خلف زجاج صومعته الفكرية، التي شهدت أروقتها رحلة مرضه، فهي فقط وحدها التي تعلم حجم المعاناة التي عاشها الكاتب الكبير في رحلة مرضه الطويلة. عُرف عن الكاتب الكبير بهدوءه وكرمه وحبه للخير ومساعدة الآخرين، فلن يبخل بعلمه وخبراته الواسعه على أحد، وأخذ بيد الكثير من الكتاب من جيل الشباب. تعد سيناريوهاته ملحمة إبداعية، حيثُ قدّم للسينما أهم تسع أفلام في رصيدها، منها "حادث النصف متر"، و"أين تخبئون الشمس"، و"رحلة داخل امرأة"، و"البوسطجي"، و"قاهر الظلام"، و"رغبات ممنوعة"، و"حبيبي أصغر مني"، و"قنديل أم هاشم" ، و"الشيماء". تناول في رواياته المسكوت عنه وتخطي بمؤلفاته الخطوط الحمراء في حقبة زمنية حرجة كان يخشى فيه الكُتاب من التطرق لهذه المنطقة التي كانت دوما ما تثير الجدل حوله، فتمرد على المعتقدات الموروثة الخاطئة في "قنديل أم هاشم"، وأعلن الحرب على الجهل المتوطن القري والنجوع في فيلمه "البوسطجي" الذي حصل على المركز ال12 فى قائمة أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية، وتطرق لقضية الشرف وعلاقة الفتاة بخطيبها في فيلمه "حادث النصف متر"، وتعمق في فكر المرأة كمحاولة منه لمعرفة ما يدور في وجدانها في فيلمه "رحلة داخل امرأه". حول الكاتب الكبير بحسه الفني وإبداعه الآدبي اللا حدود له "الصحراء" التي يُعاني منها أهلها، إلى مدينة مُلهمة، خرج منها برواية من أجمل رواياته الآدبية التي كتب عنها العالم أجمع وتم ترجمتها للغات عدة، فقدّم لنا بطلا جديدا وهو "نيكولا" بطل روايته الشهيرة "فساد الأمكنة" التي استحضر فيها روح الطبيعة والإنسان معا، تدور في عالم البحث في جبل الدرهيب في صحراء العبابدة في مصر ورحلة البحث عن كنوزها المدفونة. أحدثت فساد الأمكنة دويا في الحياة الأدبية، إذ تكثفت فيها خبرات موسى المتنوعة، بجانب أسلوبه المنمق الذي تميز به في سرده للقصة. لم تصنع منه "الصحراء" مؤلف عبقري ومبدع فذ فحسب، وإنما غرزت بداخله حب الوطن، فعشق تراب مصر وضحى بكل ما يعتبره غيره حياة من أجلها. عمل الكاتب الكبير بالصحافة، ونال عدة جوائز من بينها جائزة «بيجاسوس» الأمريكية عام 1978 التي تمنح للأدب غير المكتوب باللغة الإنجليزية، وآخرها جائزة الدولة التقديرية عام 2003، جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عام 1974، ووسام الجمهورية للعلوم والفنون من الطبقة الأولى عن أعماله القصصية والروائية عام 1975، ووسام الجمهورية للعلوم والفنون عام 1992، جائزة الدولة للتفوق عام 1999 . تقلد الكاتب الكبير الذي كان عضو فى نقابة الصحفيين والسينمائيين، ومن مؤسسى اتحاد الكتاب، وعضو الاتحاد العالمى للصحافة، والاتحاد العالمى للكتاب عدة مناصب هامة، حيثُ عمل فى بدايته مدرساً للرسم لمدة عام واحد، ثم صحافياً فى جريدة الجمهورية، وكاتباً متفرغاً فى مؤسسة "روز اليوسف"، وعضواً فى مجلس إدارتها، ثم عضواً "فى اتحاد الكتاب العرب". من أشهر رواياته "حادث النصف متر"، و"فساد الأمكنة"، و"السيد من حقل السبانخ"، وفي قسم القصص القصيرة "القميص"، و"وجها لظهر"، و"حكايات صبرى موسى"، و"مشروع قتل جارة"، وفى أدب الرحلات كتب "فى البحيرات"، "فى الصحراء"، "رحلتان فى باريس واليونان". وكان الفقيد قد شيعت جنازته الخميس الماضي من مسجد السيدة نفيسة بالقاهرة قبل نقله إلى مثواه الأخير، ليرحل عنا بجسده فقط تاركا أرثا فنيا وآدبيا يستمتع به الجيل الحاضر والآتي.