بُعيد مؤتمر الدوحة الدولي للدفاع عن القدس في 26 — 27 فبراير الماضي، الذي بحث الأوضاع الخطيرة التي تتعرض لها المدينة المقدسة من تهويد، وسعى وفقاً لرؤية تنتهي في 2020، إلى إقرار حزمة من خطط التنمية لتعزيز صمود المقدسيين، والتأكيد على دعم الدور المركزي لمدينة القدس ثقافيا وسياسياً واقتصاديا. في الوقت الذي سعى لإصدار قرارات لتعويض خسائر الاقتصاد المقدسي والفلسطيني التي بلغت نحو 48 مليون دولار. بعيد ذلك المؤتمر المفصلي، الذي يعد منعطفا تاريخيا في وقته ودعوته، انقسم الشارع الفلسطيني وعلماء الدين ما بين مؤيِّد ومعارض للدعوة التي أطلقها الرئيس الفلسطيني محمود عباس لزيارة القدس لتعزيز صمود أهلها وترسيخ تراثها وثقافتها، خصوصا في ظل الفتوى المانعة سلفا، التي أصدرها فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وحرَّم بموجبها زيارة القدس على غير الفلسطينيين، وجدد تأكيد تحريمها منذ أسبوعين ردا على دعوة عباس بقوله: "إن من حق الفلسطينيين أن يدخلوا القدس كما يشاؤون، لكن بالنسبة إلى غير الفلسطينيين، لا يجوز " لعدم إضفاء شرعية على المحتل، ومَن يقوم بالزيارة يضفي شرعية على كيان غاصب لأراضي المسلمين، ويُجبر على التعامل مع سفارة العدو للحصول على تأشيرة منها". كما أكد بن باز رحمه الله، على حرمة ذلك لانه يعد نوعا من أنواع التطبيع مع اسرائيل. أمير قطر سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وعلى الهواء مباشرة في المؤتمر ذاته، التفت للشيخ القرضاوي في خفة ظل ودعابة، متسائلا: أليست هناك من فتوى تجيز لمَن هم فوق الستين زيارة القدس..؟. وابتسم الأمير.. على عكس ما بدا على شيخنا القرضاوي، وكان سموه قد أكَّد في خطابه الافتتاحي للمؤتمر أن عروبة القدس باتت مهددة أكثر من أي وقت مضى، داعيا إلى دعم التوجُّه إلى مجلس الأمن للتحقيق في الإجراءات الإسرائيلية، متهما إسرائيل بانتهاك القانون الدولي، داعيا لتحرُّك عاجل لوقف سياسة التهويد، التي تقوم بها إسرائيل في القدس. ابتسمتُ لمشهد مطلب الأمير، خصوصا أن الحديث دارت فيه فكاهة ودعابة مع عباس أيضا، غير انني التفت بدعابة على جمع كان يتابع حولي وعلقت: "فقط للستينيين"؟ وفي دعابتي سأسرح بكم فوق عامل العمر إلى عوامل أخرى مهمة؟ رغم أن زيارة القدس حلم وأمنية لكل المسلمين والعرب، لم تكن رغبة زيارة بيت المقدس عندي مجرد ذكرى مررت بها، ولكنها تجربة لا أنساها أثناء دراستي للماجستير في الإعلام بالولايات المتحدةالأمريكية، وفي بيت القرار السياسي فيها "واشنطن" حيث كانت طبيعة دراستنا جولات ميدانية تدريبية حية وقتها بين البيت الأبيض وPress Club”، وتذكرت كيف هيأ لنا البرنامج الفرصة الأولى للخروج من البوتقة التي قد تكون آمنة ومضمونة لزيارة القدس بأمن مصدر الرحلة ودولتها لا جنسيتي.. لزيارة ضمن جولة عملية السلام مدتها أسبوعان ل (القدس، تل ابيب، والاردن)، وتدوين تقارير لقاءات، وذلك لإعداد تقارير صحفية حيَّة عن جهود مفاوضات السلام والعودة بها مجددا لتقديمها للكلية، خصوصا بعد تداعيات توقيع عرفات - نتنياهو اتفاق "واي ريفر" في مؤتمر "واي بلانتيشن" بميريلاند في 23 أكتوبر 1998، لتطبيق أجزاء مما نصَّت عليه اتفاقية أوسلو، وهي التي ماطل فيها نتنياهو لسبعة أشهر في مباحثات التنفيذ، التي أوشكت أن تنقضي فترة السنوات الخمس عليها في مايو 1999. ومن ثم تباطؤ عملية السلام بانتخاب باراك وهو المعارض الآخر لأوسلو في مايو 1999.. " ووساطة كلينتون بين عرفات وباراك قبل لقاء شرم الشيخ 1999. حلم راودني فتحمست خصوصا وأن البرنامج طرحها كمقرر اختياري، فوضعت اسمي مقدما في القائمة قبل إغلاق الحجز باستكمال العدد ريثما أعود للمنزل كوني امرأة لاستأذن زوجي، وأدرس تقدير ظروف رعاية أبنائي في ظل غيابي، وأنا أتعشم أن زوجي، الذي قطع بي الفيافي والقفار للدراسة وقتها مشجعا سيأخذني للقدس وهي موقع ديني خصوصا أننا مأمورون لشد الرحال إلى الأقصى للصلاة فيه، ولم أعلم أن أحلامي تحطَّمت لرفض زوجي غير القابل للجدل لحرمة ذلك وأخطرني، وكان هو مصدر معرفتي الأول وقتها بفتوى الشيخ القرضاوي وعدد من علماء الدين بتحريم زيارة القدس لغير الفلسطينيين كونها تعد اعترافا بالكيان الاسرائيلي لأن جواز سفري سيختم بتأشيرة منه ولا أخجل أن أقول إنني كنت أجهلها آنذاك، يستغرقتي التفكير منذ ذلك اليوم: لماذا "لا" وقتها لطلاب العلم؟، ولماذا "لا" الآن أيضا لمَن هم في مثل وضعي السابق على الأقل؟،خصوصا انني كنت طالبة علم ارتجي البحث وإصدار تقرير حي عن حالة انتهاك صارخة؟، وما زلت أفكِّر ربما بخيال جارف: لماذا لا نشكِّل بمثل هذه الزيارات ضغطا على اسرائيل وتأكدا على عروبة وإسلامية القدس وحق أهلها فيها. واليوم، على إثر الانقسام بعد دعوة عباس بين مؤيد ومعارض كون القدس تحت الاحتلال الاسرائيلي، أعلنت حركة حماس رفضها كونها تطبيعا واعترافا بإسرائيل وإن دخول القدس يجب أن يأتي من بوابة إنقاذها من الاحتلال وتعزيز صمود أهلها فيها واستخدام جميع أوراق الضغط على إسرائيل وفرض عقوبات رادعة بحقها. كما أثار تجديد فتوى التحريم حفيظة السلطة الفلسطينية فدعا محمود الهبَّاش، وزير الاوقاف الفلسطيني، الشيخ القرضاوي إلى التراجع عنها مبينا أنها تقدِّم خدمة مجانية للاحتلال الإسرائيلي، الذي يريد عزل المدينة المقدَّسة عن محيطها العربي والإسلامي، ويضع كل العراقيل والعقبات أمام وصول الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين إلى مقدسات المدينة، ويعمل على تهويدها والاستيلاء على مقدساتها. وإننا بين اعتبارات فتوى التحريم، التي شدَّد فيها الشيخ القرضاوي على أنه: "ينبغي أن نشعر بأننا محرومون من القدس ونقاتل من أجلها حتى تكون القدس لنا، وأن مسؤولية تحريرها ودحر العدوان الصهيوني عنها هي مسؤولية الأمة الإسلامية بأسرها وليست مسؤولية الشعب الفلسطيني بمفرده". واعتبارا لأهمية عدم إعطاء الشرعية للكيان، ولضمان المقاومة ودعم مساندة المسلمين للقدس بجميع الوسائل دون تنفيع للكيان بأي شكل كان، خصوصا وان الزيارة ستستدعي استخدام مرافق الكيان وبناه التحتية ودعم كيانهم اقتصاديا وتمكينه سياسيا مع مغبة عدم الأمن والامان للزائرين وما يحملون، هذا وأهلها في الوقت ذاته يعانون المنع والحرمان منها، وانطلاقا من أن الدعم ممكن أن يتخذ أشكالا سوى الزيارة لمَن لم يستطع الصلاة فيه لقوله صلى الله عليه وسلم: 'لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى ومسجدي هذا'، وفقا لقوله صلى الله عليه وسلم: 'ائتوه فصلَّوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره فمَن لم يستطع أن يأتيه فليبعث بزيت يُسرج في قناديله'، وبين اعتبارات استدلال بعض العلماء المسلمين لجواز الزيارة للقدس حتى وهي تحت الاحتلال لأنها تتشابه مع زيارة النبي، صلى الله عليه وسلم، للمسجد الحرام بعد صلح الحديبية، وهو تحت حكم المشركين، والأصنام تنتشر بالعشرات في داخل الكعبة المشرَّفة وحولها، ولم يقل أحدٌ إن ذلك كان تطبيعا من الرسول، صلى الله عليه وسلم، مع المشركين أو اعترافًا بشرعية حكمهم لمكة المكرمة، بل كان ذلك تأكيدا لحقه في المسجد الحرام'. رغم قناعتنا باختلاف الموقف والظروف وشخصية الزائر لمن ضرب بهذا مثلا. واعتبار وزير الأوقاف الهباش وغيره من المُجيزين من أن 'زيارة المسلمين والمسيحيين للقدس تمثل تحديًا للسياسات الإسرائيلية الهادفة إلى عزل المدينة المقدسة، وتشكل دعماً مادياً ومعنوياً للمرابطين في القدس، وانها تمثل رؤية سياسية قائمة على حفظ مصالح الأمة وحقوقها، وخاصة في فلسطينوالقدس.". وقد كان المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية قد صرَّح سابقا جواباً لسؤال حول حكم الشرع في زيارة المسلمين للأراضي الفلسطينية بعامة، والمسجد الأقصى المبارك بخاصة، في ظل الظروف الحالية، بين فيه: ، "إذا أدرك المسلمون مدى مسؤوليتهم وواجبهم نحو الأرض الفلسطينيةوالقدس، فلا يوجد مانع من زيارتهما، ضمن الضوابط الواجب مراعاتها، ومنها، رفض تكريس الوضع الاحتلالي للأرض الفلسطينيةوالقدس والمسجد الأقصى المبارك، وتجنُّب الخوض في أي إجراء يصب في مصلحة تطبيع علاقات المسلمين مع الاحتلال، الذي يأسر أرضنا وشعبنا وقدسنا وأقصانا، والتنسيق مع الجهات الفلسطينية المسؤولة، التي تتولى المسؤولية عن زيارات الأرض المحتلة، وأن تكون الزيارة للأرض الفلسطينية تأكيداً لهويتها العربية والإسلامية، ورفضاً للاحتلال، وعوناً للمرابطين فيها على الصمود حتى التحرير" هذا فضلا عن التأكيد على عدم دعم الكيان اقتصاديا. هذا الانقسام وتأكيد مفتي القدس على التنسيق مع الجهات الفلسطينية للزيارة، يؤكد وجوب اتخاذ وقفة جادة ضد تهويد المدينة المقدسة وطمس حقوق أصحابها، فالدفاع عن القدس واجب. وان كنا نرى كما يرى البعض أن هناك زيارات يحبذ جدواها ضمن ضوابط ومحاذير، كالزيارات الإنسانية والقانونية ونضم لها بالإضافة الزيارات البحثية او العلمية او زيارات الجهود الرامية لإحقاق الحقوق حتى لو سار الزيت قدما لإضاءة قناديلها. واذا كنا نعلم سلفا أننا لسنا بأنبياء — ولأسفِ بشريتنا الناقصة — لن يُسرَى بنا ليلا إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، ولن نستطيع الصلاة في المجسد الأقصى وفقا للفتوى لالتزامنا سلفا بتفويت الفرصة على الكيان من بسط نفوذ اية شرعية علينا.. واذا كان الاحتلال بضراوته مستمرا في تعنته وتهويد المدينة.. فكيف ومتى ومَن سيعيد الحق لنصابه ولأهله أهل القدس اولا؟، ومَن سيتيح لنا تبعا زيارة مقدساتنا بضوابطنا وشروطنا، بل وبحقوقنا التاريخية والدينية؟. هذه ورقة مهمة يجب أن تضغط عليها مؤتمرات القدس والدفاع عنها. نقلا عن صحيفة الشروق القطرية